المقالات

سلاسل إمداد الغذاء: تحويل الأزمة إلى فرصة

شارك

وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة، تأثر 26.4⁒ من سكان العالم بشكل متوسط أو كبير بانعدام الأمن الغذائي في عام 2018؛ إذ يعاني أكثر من 800 مليون شخص في الدول النامية سوءَ التغذية المزمن. وعلى الرغم من أن شأن الغذاء المنتج عالميًّا إطعام سكان العالم بأسره، فإن المشكلة تكمن في القدر الهائل من الفقد والإهدار، هذا إلى جانب انعدام عدالة توزيعه. فثلث الغذاء المنتج (ما يعادل 1.3 مليار طن) إما يُفقد وإما يُهدر.

بدأت الجهود الدولية منذ عام 1978 حينما أطلقت منظمة الغذاء والزراعة (الفاو) برنامج العمل لمنع مفقود الأغذية، الذي استمر إلى أوائل تسعينيات القرن العشرين. بعد ذلك، جاء «القضاء على الجوع» ثاني أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أعلنتها الأمم المتحدة في عام 2015، لتكون نداءً دوليًّا للحراك.

الطعام المفقود والطعام المهدر

لكي نستطيع رؤية المشكلة بصورة أفضل، من المهم التفريق بين الطعام المفقود والمهدر. أما الطعام المفقود، فهو ذلك الذي يفسد قبل الوصول إلى سوق التجزئة أو المستهلك الأخير. ويشير فقد الطعام إلى مشكلات في عمليات أو سياسات إنتاج الطعام، أو الأسواق. وأما الطعام المهدر، فيشير إلى الطعام الذي يتخلص منه تجار التجزئة أو المستهلكون. ويشير الإهدار إلى مشكلة سلوكية تتعلق بعاداتنا، وهي تحدث في كثير من الأحيان في أثناء التجمعات والاحتفالات، وفي المطاعم والفنادق.

بلا شك، فإن الطعام يُفقد بشكل أكبر في الدول النامية ويُهدر بشكل أكبر في الدول المتقدمة. فوفقًا لمركز تي. كولين كامبل لدراسات التغذية T. Colin Campbell Center for Nutrition Studies، تُهدر المملكة المتحدة 32⁒ (نحو 6.7 مليون طن) من الطعام الذي يُشترى، في حين تفقد قارة إفريقيا من 25⁒ إلى 50⁒ من الطعام المنتج بعد الحصاد مباشرة. والآن، لنركز في الغذاء الذي يُفقد عبر سلسلة الإمداد، وكيف يمكن الحد منه.

Food Supply Chain. Source: cdn-wordpress-info.futurelearn.com

سلاسل إمداد الغذاء

يشير مصطلح سلسلة الإمداد إلى نظام متكامل من العمليات، والأشخاص، والمؤسسات المساهمة في انتقال شيء ما من مكان إنتاجه الأولي وصولًا إلى المستهلك الأخير. وعلى الرغم من أن لكل منتج أو خدمة سلسلة إمداد فريدة خاصة به، فإن سلاسل الإمداد في العموم تضم الفاعلين التالين: مُزود المواد الأولية، والمنتج، والموزع، وبائع الجملة، وبائع التجزئة، والمستهلك الأخير. هؤلاء الفاعلون ينفذون عمليات مختلفة، مثل: التخزين، والتصنيع، والنقل، والتعبئة... إلخ.

وفي ضوء هذا، فإن سلسلة إمداد الغذاء تشير إلى رحلة الغذاء من الحقول وصولًا إلى أطباقنا؛ وهي تشمل مختلف المراحل، والفاعلين، والعمليات التي يمر بها الغذاء على مرِّ تلك الرحلة. يمكن التمييز بين نوعين من سلاسل إمداد الغذاء؛ الأول للمنتجات الطازجة مثل الفواكه والخضراوات، والآخر للمنتجات المصنعة مثل الأطعمة ومنتجات الألبان المعلبة.

المرحلة الأولى من سلسلة إنتاج غذاء معيارية هي الإنتاج، ويكون الفاعلون فيها المزارعين؛ وتشمل العمليات التي تتم خلالها زراعة البذور، والري، والتسميد، ومكافحة الآفات، والحصاد. ثم تأتي مرحلة ما بعد الحصاد إذ يعبئ العاملون في الحقول المحاصيل ويحملونها تمهيدًا لمرحلة النقل. والنقل هو المرحلة الثالثة إذ تنقل شركات الشحن والوكلاء المنتجات الغذائية إما إلى أسواق الجملة، وإما المصانع لتخضع لعمليات أخرى، أو إلى مرافق المـُصدِّرين. بعدها، تنقل المواد الغذائية مرة أخرى من تلك المحطات إلى متاجر التجزئة، لتصل في النهاية إلى المستهلك الأخير.

الغذاء المفقود بعد الحصاد

بصفة عامة، تتناسب معدلات فقد الغذاء بعد الحصاد طرديًّا مع سوء إدارة سلاسل إمداد الغذاء. ويؤدي التقدم التقني دورًا أساسيًّا في الحدِّ من تلك الخسائر، ولهذا السبب معظم فقد الغذاء يحدث في الدول الأقل تطوُّرًا. والآن، هيا نستعرض مثالين على مشكلة فقد الغذاء خلال سلسلة الإمداد.

تُعدُّ الحبوب أقوى المحاصيل الغذائية تحملًا – أو أقلها عرضة للتلف – مقارنة بالدرنيات، والفواكه، والخضراوات. وتضم الغلال الحبوب والبقوليات، وهي تمثل مصدرًا رئيسيًّا للغذاء؛ إذ يشكل القمح والأرز والذرة أكثر من نصف السعرات الحرارية التي يستهلكها البشر.

ويُعدُّ التخزين مرحلة رئيسية في سلاسل إمداد محاصيل الغلال؛ لأنها كثيرًا ما تتطلب التخزين لفترات طويلة. يُفقد نحو 15⁒ من الإنتاج العالمي للغلال نتيجة سوء التخزين ومخازن الغلال غير الكفء بشكل أساسي. ففي بعض المناطق الفقيرة، قد تُخزن الغلال في بيوت المزارعين في ظروف غير ملائمة؛ ما يؤدي إلى خسائر كبيرة. وقد تُفقد الغلال أيضًا بسبب انسكابها في أثناء مناولتها أو نقلها. المفقود من المحاصيل الأقل عرضة للتلف في الدول المتقدمة ضئيل جدًّا.

يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة إلى المحاصيل البستانية مثل الفواكه والخضراوات. وعلى الرغم من أن معدل الثمار المفقودة مرتفع في كل من الدولة المتقدمة والنامية، فإن الفقد يحدث لأسباب مختلفة. على سبيل المثال، يمثل عدم مطابقة الثمار للمعايير الشكلية أو معايير الجودة التي يفرضها المستوردون وتجار التجزئة نسبة من الغذاء المفقود في الدول المتقدمة. ويُفقد نحو 10⁒ من الفواكه والخضراوات في رحلتها من الحقول إلى متاجر التجزئة في المملكة المتحدة.

من جهة أخرى، وفقًا للأمم المتحدة، يُفقد ما يصل إلى 50⁒ من الفواكه والخضراوات في الدول النامية في المراحل المبكرة من سلاسل الإمداد. يحدث هذا الفقد لأسباب متعددة؛ منها استخدام طرق بدائية للحصاد قد تسبب رضوضًا للثمار، والافتقار إلى مرافق جيدة للتعبئة، والنقل دون تغليف الثمار، وكذلك الافتقار إلى سلاسل إمداد يمكن التحكم في درجة حرارة المنتجات خلالها، ما يُعرف بسلاسل التبريد.

Image by Freepik

الحدُّ من الطعام المفقود

يرتبط الحدُّ من الطعام المفقود ارتباطًا مباشرًا بتصميم سلاسل إمداد أعلى كفاءة. ويتراوح هذا من تحسين عمليات بسيطة مثل مناولة الثمار برفق أكثر إلى سلاسل إمداد الغذاء التي تدار رقميًّا بالكامل.

الأمر يبدأ من الحقل حيث يمكن استخدام تقنيات حديثة لمراقبة المحاصيل والتنبؤ بالموعد الأنسب للحصاد وفقًا للغرض من الزراعة، سواء كان التصدير أو البيع المباشر لمتاجر الجملة. ومن هذه التقنيات نظام ابتكرته العالمة المصرية نشوى البنداري؛ وقد نال هذا المشروع جائزة الألكسو للإبداع والابتكار التقني للباحثين الشباب بالوطن العربي في عام 2014، وجائزة برنامج لور يال - اليونسكو من أجل المرأة في العلم على المستوى الإقليمي لزمالة مصر والمشرق العربي في عام 2015.

ومن شأن الاعتماد على مرافق تخزين ونقل يمكن التحكم في درجة حرارتها الحفاظ على الغذاء لفترات أطول بشكل ملحوظ أيضًا. فتوجد بعض الحاويات المستخدمة في سلاسل الإمداد الذكية، التي يمكن التحكم فيها عن بعد لمراقبة درجات الحرارة والرطوبة. ولكن، وفقًا للاتحاد العالمي لسلاسل التبريد (Global Cold Chain Alliance)، فأقل من 10⁒ من الأغذية الأكثر عرضة للتلف يبرد في أثناء رحلتها عبر سلاسل الإمداد.

كذلك سلاسل الإمداد الفضلى تتبع بيانات العرض والطلب لتجنب أي زيادة مرغوب عنها في الإنتاج، وما قد ينجم عنها من فقدٍ للغذاء. فتسمح سلاسل الإمداد المتقدمة تلك لمختلف الفاعلين مراقبة البيانات رقميًّا والتصرف وفقًا لها أولًا بأول لتجنب فساد المنتجات.

وجدير بالذكر أن مصر أطلقت منذ بضع سنوات مشروعًا طموحًا وضخمًا يُعرف بـ«المشروع القومي للصوامع»، انطوى على تشييد 50 صومعة في 117 محافظة مصرية، تبلغ سعتها التخزينية 1.5 مليون طن.
 وتُدار تلك الصوامع كاملةً باستخدام أحدث التقنيات بأيدي عاملين مدربين تدريبًا جيدًا، وذلك لتحقيق أفضل ظروف التخزين والتحكم الدقيق في المدخلات والمخرجات حسب الطلب. ووفقًا لتصريحات إعلامية لمسئول مصري رفيع المستوى، فقد وفر المشروع أكثر من مليون طن من الحبوب سنويًّا، وهو ما يعادل عُشر استهلاك الدولة السنوي.

جديرٌ بنا أيضًا تسليط الضوء على نموذج مهم آخر لسلاسل الإمداد، يُعرف بسلسلة الإمداد ذات الحلقة المغلقة. هنا، يُعاد إدخال أي مفقود محتمل عبر سلسلة الإمداد إليها مرة أخرى للانتفاع بقيمته. على سبيل المثال، تُرسل المنتجات التي لا تطابق المواصفات الشكلية إلى مرافق تصنيع الغذاء، وتُستغل الأجزاء غير القابلة للأكل في تطبيقات صناعية أخرى، في حين تُوجه الخسائر التي لا يمكن تجنبها إلى قطاع الطاقة الحيوية وهكذا.

الحدُّ من الطعام المُهدر

على صعيد آخر، أود أن أتحدث باختصار عن الحدِّ من إهدار الطعام، وأذكر بعض النصائح في هذا الشأن؛ لأن هذا هو الجزء الذي قد تستطيعون أعزائي القراء المشاركة فيه مباشرة.

  • الأمر يبدأ عند التسوق. جهز قائمة باحتياجاتك الفعلية قبل الذهاب للتسوق، ورشِّد شراء المنتجات الغذائية المعرضة للتلف السريع، ولا تضعف أمام العروض.
  • لا ترمِ طعامًا أبدًا. احفظ الطعام لكي لا يفسد من خلال طرق التخزين والحفظ الجيدة، وتفقد ثلاجتك باستمرار، واستخدم بقايا الوجبات في إعداد وجبات جديدة. لا تنس أيضًا أن الفواكه والخضراوات ذات الشكل الغريب لذيذة ومغذية تمامًا مثل غيرها.
  • إن كنت تعيش في الريف، أو في منزل به حديقة أو ساحة خلفية، ففكِّر في اقتناء وحدة إنتاج غاز حيوي منزلية، تستطيع تحويل المخلفات العضوية إلى طاقة نظيفة مجانية.
  • اغرف كميات أقل في الأطباق، ثم اغرف مزيدًا عند الحاجة. تذكر أيضًا أن الطريقة الفضلى للترحيب بضيوفك هي غرف كميات قليلة لمرات متعددة، وليس غرف كمية كبيرة في أطباقهم مرة واحدة.
  • أخيرًا وليس آخرًا، تذكر دائمًا أن مشاركة فائض الطعام فعل خيِّر. لذلك، فأعطِ المحتاجين الطعام الذي لن تتناوله أو تعيد استخدامه.

لا يعني الحدُّ من فقد الغذاء وإهداره زيادة الإمدادات الغذائية للعالم فحسب، بل يُدرُّ الأمر منافع عديدة. فكِّر في القيم الافتراضية وراء إنتاج الطعام؛ مثل: مجهود البشر، وبصمة الماء، وبصمة الكربون، واستهلاك الأراضي. كذلك، سيعود بالنفع المادي على الفاعلين والمتفاعلين مع سلاسل إمداد الغذاء. فلن يفقد المزارعون عائد بيع الغذاء الذي لم يُبع، ولن يُهدر الناقلون الوقود المستخدم لنقل الغذاء الذي يفسد في الطريق. إن تحسين سلاسل إمداد الغذاء حقًّا أمر جوهري لتحويل أزمة الغذاء إلى فرصة واعدة.

المراجع

americanexpress.com

civilsdaily.com

fao.org

gcca.org

nutritionstudies.org

sdgs.un.org

sis.gov.eg

Julian Parfitt, Mark Barthel and Sarah Macnaughton, 2010. Food waste within food supply chains: Quantification and potential for change to 2050 Phil. Trans. R. Soc. B3653065–3081

M. Ghamrawy, 2019. Food loss and waste and value chainsLearning guide. Cairo, FAO

اقرأ مزيدًا

العالمة المصرية نشوى البنداري

علم الغذاء وحفظه (عدد خريف 2015: الغذاء والزراعة)

إهدار الطعام والجوع في العالم (عدد صيف 2019: أهداف التنمية المستدامة)

مشكلة الطعام بين ندرته وتوزيعه (عدد صيف 2019: أهداف التنمية المستدامة)

مذاق الثقافة (عدد شتاء 2014: الحضارة الإنسانية)

عصفوران وحجر واحد (عدد شتاء 2019: أهداف التنمية المستدامة).


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد شتاء/ ربيع 2021. 


Cover Image by wirestock on Freepik.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية