قبل نيوتن كان يوجد ابن الهيثم

شارك

ابن الهيثم العالم العربي الذي أنتج المنهج العلمي، وأبو علم البصريات الحديث. فهو العالم الجريء أيضًا الذي ادعى الجنون للهروب من جنون الخليفة الفاطمي بعد أن فشل في المهمة المستحيلة المنوط بها. لقد كان عالمًا جامعًا عبقريًّا، وشخصية جدالية، وعقلًا فذًّا.

في يوم من ذات الأيام

قبل ألف عام، فيما نعرف اليوم بالعراق، ولد الحسن بن الهيثم في مدينة البصرة أثناء حكم الخلافة العباسية. ولا نعرف كثير عن حياته في الصغر في العراق على الرغم من وجود سيرة ذاتية كتبها بنفسه عام 1027م؛ فلأنه عالم حقًّا تكاد تخلو كتاباته من أي شيء عن حياته الشخصية، بل تركز على عبقريته العقلية.

ما يعرف عن سنواته المبكرة هو أنه أنشئ ليكون موظفًا مدنيًّا، وأنه تعلم الدراسات الإسلامية في البصرة وبغداد؛ وقد تدرج ليصبح وزيرًا للبصرة والمنطقة المجاورة. مُحاطًا بثقافة التعلم في العراق والعصر الذهبي للتقدم العلمي في الحضارة الإسلامية بدأ في تركيز اهتمامه على العلم وموضوعات تجريبية أخرى.

وفي الدراسة العلمية وجد ابن الهيثم شغفه وقيمته؛ حتى إنه ترك عمله ورحل إلى مصر التي كان يحكمها آنذاك الخلافة الفاطمية –وهي عدوة الخلافة العراقية– وذلك للتعمق في دراساته العلمية.

في أرض النيل

في مصر، تألق ابن الهيثم ونمت سمعته العلمية؛ حتى ذاع صيت معرفته الفيزيائية بما يكفي للفت نظر الخليفة الفاطمي حينذاك: الحكيم. فقد كان الحكيم نفسه مهتمًّا بالعلوم، وبالأخص الفلك؛ إلا أنه بالرغم من صيته بصفته راعيًا للعلوم وداعمًا للعلماء، فقد عرف بقسوته وغرابة أطواره.

كان ابن الهيثم يدرس كيفية تنظيم جريان مياه النيل بهدف تقليل الفيضان؛ فسمع الحكيم بغايته وأمره بتولي المهمة على الفور. ولكن على الرغم من رجاحة الفكرة الظاهرة على الورق؛ فإن ابن الهيثم أدرك بعد السفر مع فريق عمل على طوال مسار النيل شمالًا وجنوبًا أن تلك الفكرة تستلزم تنفيذ سد عملاق، الأمر الذي يحتاج إلى معدات بناء عملاقة لم تكن متوفرة حينذاك.

ريثما أدرك ابن الهيثم أن عليه إبلاغ فشله للخليفة الذي لا يمكن التنبؤ برد فعله وأنه غالبًا ما سيفقد رأسه، ادعى الجنون في محاولة للهروب من غضب الحكيم. وقد نجح إلى حدٍّ ما في مسعاه، فتم إعفاؤه من مهامه وحبسه في منزله؛ حيث كانت العزلة هي كل ما يحتاج ليصبح أحد أعظم العلماء في التاريخ كله.

سجين منزله

على مدار عشر سنوات تالية، وفي ظل حبسه بمنزله لبقية حياته، استطاع ابن الهيثم تفسير طبيعة الضوء وتمثيل النموذج الصحيح للبصر، والذي أساء فهمه سابقًا مفكرون موقرون؛ مثل إقليدس وبطليموس.

فقد كانت المعرفة السائدة قبل ابن الهيثم هو أننا نرى ما أعيننا بنفسها تضيء؛ حيث كانت نظريتهم أن البصر يكون بفعل أشعة من الضوء تبعثها الأعين مثل الكشافات. إلا أن هذا التفسير لم يقنع ابن الهيثم؛ فإذا كان الضوء يأتي من العيون، لماذا إذًا نتألم عندما ننظر إلى الشمس؟ ذلك الإدراك البسيط دفعه إلى البحث في سلوك الضوء وخصائصه، وذلك هو علم البصريات.

ولحل تلك المعضلة قام ابن الهيثم بابتكار منهجية للتحقيق تتميز بتركيز كبير على التجارب المصممة بدقة، وذلك لاختبار النظريات والافتراضيات والتحقق منها. هكذا ابتكر المنهج العلمي الذي يستخدمه العلماء اليوم في أبحاثهم.

نجح ابن الهيثم في التوضيح بالمنطق والتجربة على حدٍّ سواء أن الضوء جزء أساسي ومستقل من البصر؛ فقد توصل إلى أن البصر لا يحدث إلا إذا وجد شعاع ضوء من مصدر مضيء أو منعكس عنه قبل دخوله العين. وقد أثبت أن الضوء يتنقل في خطوط مستقيمة فقط، كما وضع الحجج المبدئية التي أكدت وجود عصب بصري، وهو ما فسر كيف أن الأشياء التي تبعث بأشعة عدة للعين تُرى حتى وإن لم يهم سوى الشعاع العامودي. وقد فسر طريقة عمل المرايا، كما جادل بأن أشعة الضوء يمكنها الالتواء عند التحرك خلال وسائط مختلفة؛ مثل الماء على سبيل المثال.

استخدم ابن الهيثم حجرة مظلمة أسماها «البيت المظلم» لشرح طبيعة الضوء والبصر؛ فتعتبر آلته أساس التصوير الفوتوغرافي. إلا أن ابن الهيثم لم يكتفِ بتوضيح نظرياته لنفسه فقط؛ فأراد أن يرى الآخرون ما قد فعله. وقد كللت سنوات العمل المنعزل بكتاب البصريات، وهو أطروحة من سبعة أجزاء، والتي وضحت منهجه بقدر ما وضحت أفكاره الفعلية.

من خلال كتاب البصريات أثرت أفكار ابن الهيثم على الباحثين الأوروبيين بما في ذلك علماء النهضة الأوروبية، والذين اعتبروه «أبا علم البصريات الحديث». وأثناء سنوات عزلته كتب ابن الهيثم كثيرًا عن البصريات بإجمالي 96 كتابًا ومخطوطًا نجا منها 55.

وإرثه في علم الفلك واضح أيضًا؛ فتوجد فوهة ابن الهيثم على سطح القمر، وكذلك كويكب ابن الهيثم. وبالإضافة إلى البصريات والفلك، درس ابن الهيثم وكتب عن الرياضيات، وبالأخص التفاضل والتكامل. وقد كان له تأثير بالغ على إسحق نيوتن، والذي كان على دراية بدراسات ابن الهيثم المتعددة في التفاضل والتكامل، والتي أدت إلى المعادلات الهندسية والمناهج المستخدمة منذ ذلك الوقت.

ففي الواقع أن قانون الحركة الثالث لنيوتن –لكل فعل رد فعل مساوِ له في الاتجاه المعاكس– مبني على فرضية ابن الهيثم فيما يخص حركة الأجسام والتجاذب بين كل جسمين، أي الجاذبية. لذلك يمكننا الجزم بأنها لم تكن تلك التفاحة الأسطورية التي سقطت من الشجرة هي ما أوصل نيوتن إلى الجاذبية، بل كانت كتب ابن الهيثم هي الفاعلة.

المراجع

http://gulfnews.com

http://muslimheritage.com

www.britannica.com

www-history.mcs.st-and.ac.uk


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة «كوكب العلم»، عدد شتاء 2016.


Cover image credits: An Enlightened Mind/Bibliotheca Alexandrina Planetarium Science Center

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية