المقالات

إضعاف الفيروسات: فن خداع الفيروس

شارك

الفيروسات مخادعة؛ فهي تتسلل إلى جسم الإنسان دون أن تلاحظ. وبينما هناك بعض الفيروسات الرحيمة التي تستمر لبضعة أيام فقط ثم تغادر الجسم دون ترك أية أضرار دائمة، هناك فيروسات أخرى قاتلة. مع ذلك، فلا يُضاهي خداع الفيروسات خداع البشر؛ فقد توصلوا إلى حلول عبقرية لحماية الجنس البشري من الفيروسات القاتلة.

فلنتأمل أولًا كيف تتسلل الفيروسات إلى جسم الإنسان. الفيروسات بسيطة في تركيبها؛ ومع ذلك، تكمن خطورتها في قدرتها على خداع الجسم. فبإمكانها الوصول إلى الخلايا بسهولة؛ حيث تتنكر في صورة مغذيات تحتاج إليها الخلايا بشدة. وفور دخول الخلية تنقل الفيروسات محتواها الوراثي (الجينوم) إلى الخلية؛ وبتلك الطريقة تتبع الخلية المصابة تعليمات الفيروس. على الرغم من أن الفيروس ليس لديه القدرة على تكرار نفسه، فإنه يقوم بذلك من خلال نقل بياناته إلى الخلية المصابة.

ولكن رغم تسلل الفيروسات إلى الخلايا البشرية، لا تقف الخلايا عاجزة في مواجهتها. فالجهاز المناعي مهيأ لتمييز خلايا الجسم عن غيرها من الدخلاء؛ وفور اكتشافها تقوم خلايا الدم البيضاء بمواجهتها دفاعًا عن الجسم. وتؤدي كلٌّ من اللمفاويات التائية والبائية (الخلايا البيضاء) دورًا مهمًّا في مهاجمة الفيروسات ومنعها من التضاعف.

فتتحد تلك الخلايا البيضاء لحماية الجسم من الفيروسات؛ إما عن طريق إطلاق إنذار لمنع الفيروس من تكرار نفسه، وإما ببساطة عن طريق إنتاج أجسام مضادة. فتميز الأجسام المضادة الفيروس؛ ولذا، تتمكن الخلايا الأخرى من التعرف عليه ومهاجمته. كذلك لجهازنا المناعي ذاكرة؛ ففور تدمير الفيروس تستدعي الخلايا البائية والتائية ذاكرة الفيروس كي تتمكن من التعرف عليه بسهولة ولا يتمكن من خداعها مرة أخرى. ويعني ذلك أن الجهاز المناعي بإمكانه منع أية عدوى أخرى من نفس الفيروس بسهولة.

مع ذلك، فهناك فيروسات قاتلة لا يستطيع البشر النجاة منها للاحتفاظ بها في ذاكرة خلاياهم؛ ومن هنا تأتي أهمية اللقاحات. فالهدف من اللقاح هو منح جهازنا المناعي ذاكرة عن الفيروس لتمييزه وتكوين مناعة ضده إلى مدى الحياة دون أن نعاني من عواقبه. هناك طرق مختلفة لصنع تلك اللقاحات أو التطعيمات، ولكننا سوف نركز هنا على إضعاف الفيروسات فقط. فهي بمثابة فن؛ وذلك من خلال إدخال الفيروس في الجسم البشري بصورة آمنة، لتحمل نفس الاستجابة المناعية المتوقعة من الجهاز المناعي، ولكن دون ترك أي أضرار دائمة.

وإضعاف الفيروسات يختلف عن عملية القضاء على الفيروسات تمامًا. فالتطعيم ضد أمراض مثل الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية وجديري الماء يستند إلى تقنية إضعاف الفيروسات. تتم عملية إضعاف الفيروس عند وضعه في جسم مضيف مختلف؛ حيث يُحقن الفيروس الذي يهاجم البشر في الحيوانات، وعادة ما تكون أجنتها. ولا يتم حقن الفيروس مرة واحدة؛ بل يتم نقله بين أجنة حيوانية عدة مرات. وفي كلِّ مرة ينقل الفيروس عبر الأجنة الحيوانية، يتحسن من خلال تكرار نفسه في الخلايا الحيوانية؛ ولكن في الوقت نفسه، يفقد قدرته على التكرار داخل الخلايا البشرية. من خلال إدخال الفيروس في أجسام مضيفة مختلفة، ينتج نسخة ضعيفة من الفيروس يمكن للخلايا لبشرية تمييزها. فعند تطعيم البشر بفيروس ضعيف، تتلقى أجسامهم مناعة على مدى الحياة دون المعاناة من توابع مدمرة للمرض نفسه.

لقد أودت الفيروسات في الماضي بحياة مليارات من البشر. إلا أنه بفضل تطعيم «الإضعاف الفيروسي» صارت أغلب الفيروسات المميتة تحت السيطرة؛ إن لم تكن أبيدت تمامًا. ومن المهم ذكر صاحب الفضل في اختفاء عديد من الفيروسات القاتلة وهو إدوارد جينر المعروف باسم «أبي المناعة». فقد لاحظ جينر أن بائعات الحليب اللاتي أصبن بمرض جدري البقر يتمتعن بمناعة ضد الجدري. ومن ثم، قام بتعريض الناس لجدري البقر ثم الجدري؛ فلاحظ عدم تأثرهم به. وقد أعاد التجربة نفسها مرارًا وتكرارًا حتى تأكد تمامًا من أن أحد الفيروسين بالفعل يساعد الأفراد على تكوين مناعة ضد الفيروس الآخر القاتل. فأنقذت ملاحظاته الأفراد من الجدري، ومهدت الطريق لتحقيق عديد من الإنجازات في مجالي التطعيم والمناعة. 

منذ ذلك الحين، جرت الأبحاث وصار لدينا الآن فهم أفضل عن فن التطعيم يفوق ملاحظات جينر الأولية بكثير؛ إلا أن له الفضل في إنقاذ حياة البشر . فبفضله هو وعديد من العلماء الذين تبعوه، صار عالمنا آمنًا. فحافظ على التطعيم من أجل سلامتك.

*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد صيف 2017.

المراجع

historyofvaccines.org
askabiologist.asu.edu
bbc.co.uk
cdc.gov
explorable.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية