لغز الحضارة الإنسانية - الحلقة الرابعة

شارك

أريد أن أغادر هذا الكوكب، أريد أن أغادر هذا الكوكب؛ كانت هذه هي الجملة التي ظل يرددها القصير جدًّا بعد أن علا صوت الهدم في الشارع، وتسربت رائحة الغبار إلى جو الغرفة. تكاد أنت أن تفقد أعصابك من تكرار جملته ومن الصوت المزعج الصادر من ماكينات الهدم مع الساعات الأولى لليوم الجديد، في حين ترى الضيوف الثلاثة وهم يقومون بحركات غير مفهومة من الدوران الرأسي والأفقي. فتجد البدين جدًّا يتضاءل في الحجم، والطويل جدًّا يقل طوله، والقصير جدًّا يزداد طولًا. وتراهم وقد أصبحوا حجمًا واحدًا، وطولًا واحدًا، وعلى نفس الهيئة من الحجم والطول، فلا تقدر أن تميز بينهم ولم تعد تعرف من هو الطويل جدًّا ومن هو البدين جدًّا ومن هو القصير جدًّا.

قبل أن تحاول السؤال تسمع أحدهم يكرر نفس الجملة: أريد أن أغادر هذا الكوكب، فتفهم أنه كان القصير جدًّا، وتجد الاثنين الآخرين يهدئان من انفعاله ويربتان على كتفه ليسكت. ويوجه الكائن الموجود على اليمين كلامه إليك: لابد وأنك يا صديقنا تسأل كيف حدث ذلك؟ فترد مجيبًا بحركة رأسك وبدون كلام، فيبتسم الكائن الموجود على اليسار من رد فعلك، ويضيف: من حقك أن تسأل دومًا كيف حدث ذلك، فإن مفتاح العلم هو السؤال. فالسؤال هو البداية للفهم؛ لأن السؤال لابد له من إجابة، والإجابة لابد لها من المعرفة، والمعرفة لابد لها من الملاحظة والتعلم، والتعلّم لابد له من الإصرار، والإصرار لابد له من الـ....

على الفور تتيقن أن هذا الكائن هو البدين جدًّا الذى يتحدث دومًا وكأنه إنسان آلي، ولكنه يستمر بدون توقف: يا صديقنا إن زيارتنا لك حتى الآن ناجحة جدًّا، وقد فهمنا إلى حدٍّ بعيد كيف تجري الأمور على كوكبكم، وكيف تحدث الأشياء. ونحن وجدناك شخصًا مسالـمًا وشجاعًا؛ لأنك تفاعلت معنا. تدخل الكائن الموجود على الجانب الأيمن مقاطعًا حديثه: إن الهدف من زياراتنا لك – كما أخبرناك سابقًا – هو معرفة كيف وصلتم على كوكبكم إلى هذا المستوى من الحضارة، والتقدم، والرقي. ولكن إلى الآن لم ننه مهمتنا في فهم أسرار العلم الذى أوصلكم الى هذا المستوى.

تشير إليه ليكف هو رفاقه عن الاسترسال وتقول: إني أيقنت الآن أنكم كائنات طيبة، ولا تريدون شرًّا بي ولا بأي أحد، والأهم من ذلك كله أني تأكدت أنني مستيقظ، وأنني لم أكن أحلم، وأنكم حقيقيون، وأن اليوم هو الأربعاء، وهذه غرفة نومي، وهذا مكتبي. ولكن اسمحوا لي أنتم ... ثم تأخذ نفسًا عميقًا وبهدوء تكمل كلامك: أريد أن أعرف – وأعتقد من حقي أن أعرف – من أي مكان أنتم؟ وكيف تعيشون؟ وكيف تتحولون هكذا؟ وكيف تسير الأمور معكم؟ وإلى أي مستوى حضاري وصلتم في المكان الذي جئتم منه إلى هنا؟ وكيف تتحولون هكذا أمامي؟ وما السبب؟

فجأة تجدهم قد عادوا مرة أخرى إلى هيئاتهم الأولى، ويتكلم الطويل جدًّا: كل هذه الأسئلة مشروعة يا صديقي، فكما قال رفيقي إنه لولا السؤال ما كانت المعرفة، وما كانت الحضارة، وما كانت الاختراعات. ولكي لا نطيل فترة استغرابك، أحب أن أقول لك إننا مخلوقات مختلفة تمامًا عنكم البشر؛ فأنتم مخلوقات متباينة في الشكل، واللون، والطول والحجم، وتتناسب أشكالكم مع البيئة التي تعيشون فيها؛ ولا دخل لكم في تغيير هيئتكم هذه. ويضيف البدين جدًّا: أما نحن فنتمتع بقدرة التحكم في جيناتنا والخلايا الموجودة أسفل جلودنا وتشريح عضلاتنا؛ فيمكننا التشكُّل حسبما نريد ونحن نتخاطب بالإشارات في جميع الأطوال الموجية التي تعرفونها أنتم على كوكب الأرض والتي لم تعرفونها بعد. يقاطعه القصير جدًّا: ولكنني ما زالت على رغبتي ومصرًّا عليها، أريد أن أغادر هذا الكوكب، ولم أعد أريد البقاء فيه أكثر من ذلك.

تتبسم أنت وتتكلم بحكمة لا تدري سببًا لها، فلعلهم قد أثروا فيك أنت أيضًا وترد على القصير جدًّا المنفعل جدًّا: معك حق في رغبتك في أن تغادر هذا الكوكب، وإن فعلتم ذلك فلن أحزن، فأنا مدين لكم بكثير من الأشياء أولها هو تغيير طريقة تفكيري في كيفية حدوث الأشياء. ورغم أن هذه الطريقة هي مفتاح الحضارة ومن أهم أسباب الرقي والتقدم على كوكبنا كما قال صديقاك؛ فإن كثيرًا من سكان كوكبنا – وأنا منهم – لا يتبعها.

ولكن أرجوك أن تهدأ وتكون صبورًا، فإنك أنت وأصدقاءك رغم كل ما رأيتموه وعرفتموه عنا فأنا متأكد أنكم لم تروا أشياء كثيرة بعد. ثم إنكم لم تجيبوا عن أسئلتي بخصوص المكان الذى أتيتم منه. يتنهد القصير جدًّا كما يفعل البشر وينظر متسائلًا لرفيقيه وكأنه يتساءل عن إمكانية الاجابة عن تساؤلاتك بخصوص هوياتهم والمكان الذى أتوا منه. تطول فترة الصمت بينهم وعندما تمل الانتظار وتحاول أن تبدأ الكلام؛ إذا بالطويل جدًّا يقول: أعتقد يا صديقنا لو أنك أخبرت أحدًا عن زيارتنا لك والحوارات الكثيرة التي حدثت بيننا فلن يصدقها وسيقول بأنك كنت تحلم، أو شاهدت فيلمًا عن الخيال العلمي، أو قرأت كتابًا عن الكائنات الفضائية، أو ما شابه ذلك. تحرك رأسك موافقًا على كلامه. فيكمل البدين جدًّا: ولكننا يا صديقي اتفقنا فيما بيننا الآن أن نعطيك سرنا ولكن تحت شرط واحد.

رسوم محمد خميس.

الحلقة منشورة في مجلة كوكب العلم، عدد خريف 2014.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية