المقالات

التخدير: طفرة في تاريخ الإنسانية

شارك

داخل غرفة العمليات يحقن الطبيب سائلًا ما في أحد أوردة المريض، وما هي إلا لحظات حتى يغيب المريض عن الوعي، وبعدها تبدأ العملية الجراحية. وحين يستفيق المريض تجده لا يتذكر سوى وخز الإبرة كأن شيئًا لم يكن. لم يكن الأمر دائمًا بهذه السهولة. فقد كان إجراء العمليات الجراحية قبل ظهور التخدير بمنزلة كابوس مزعج لكل من المريض والجراح، حتى وصف أحد الجراحين أنه كان يشعر عند ذهابه إلى غرفة العمليات كأنه ذاهب إلى غرفة الإعدام.

فقديمًا، كان يُطرق على رأس المريض بمطرقة حتى يفقد الوعي، أو يُثبت ويُمنع من الحركة بمساعدة أشخاص ذوي بنية جسدية قوية حتى ينتهي الطبيب من عمله. ولجأ آخرون إلى ربط العضو المراد استئصاله بإحكام لمنع وصول الدم إليه فيموت ويسهل استئصاله، أو وضع الثلج على العضو ليفقد المريض الإحساس بهذا الجزء، وبعدها تُجرى العملية الجراحية. استخدمت النباتات والأعشاب الطبية أيضًا في عملية التخدير، مثل: القنب، والخشخاش الذي يُستخرج منه الأفيون، والذي كان يستخدم بكثرة في العصور الوسطى في معظم المدن الأوروبية. إلا أن استخدام هذه النباتات بكميات كبيرة يؤثر في أجهزة الجسم، ويزيد خطورة العمليات الجراحية. وقد اكتشف الكحول بالصدفة عندما نتج عن تخمر الفواكه. وعُرف منذ القدم بتأثيره المسكن للآلام؛ فاستُخدمت أبخرته في التخدير. وكان الجراحون يعطون المرضى إياه قبل العمليات الجراحية.

ظهر التخدير الحديث عندما اكتشف العالم الإنجليزي بريستلي غاز أكسيد النيتروجين الثنائي N2O المسمى بغاز الضحك. ويرجع فضل استخدامه كمخدر إلى أطباء الأسنان الذين كانوا يعانون يوميًّا شعور مرضاهم بالألم عند خلع أسنانهم. وفي 16 أكتوبر 1846 تمكن أحد الجراحين بمستشفى ماساتشوستش العام في بوسطن من استئصال ورم في رقبة أحد الأشخاص باستخدام غاز الإيثر الذي اكتشفه طبيب الأسنان الأمريكي ويليام مورتون. فيعد هذا اليوم علامة فارقة في تاريخ التخدير بمفهومه الحديث؛ حيث يحتفل العالم في هذا اليوم من كل عام باليوم العالمي للتخدير، وقبله كان الألم والجراحة وجهين لعملة واحدة.

وبعد ذلك، ذاع صيت الإيثر كمخدر، ولكن ظهرت أعراضه الجانبية، مثل: الشعور بالغثيان، والقيء، وتسببه في التهاب الأغشية الرئوية، واستغراقه وقتًا طويلًا ليبدأ مفعوله ويتمكن الطبيب من بدء العملية الجراحية؛ مما أدى إلى البحث عن بدائل أفضل. فتوصل طبيب النساء الأسكتلندي جيمس سيمبسون إلى الكلوروفورم الذي استخدمه أثناء ولادة إحدى السيدات. إذ تميز الكلوروفورم عن الإيثر في أنه أسرع، وأقوى تأثيرًا، وأقل تكلفة. كذلك ساهم استخدامه كمخدر عند ولادة الملكة فيكتوريا لابنها الأمير ليوبولد في انتشاره بشكل أوسع في العمليات الجراحية واطمئنان الناس إليه، ولكن هوى نجم الكلوروفورم بعد ظهور أضراره على كبد مستخدميه وازدياد معدل الوفيات المرتبطة به.

ظهر بعد ذلك عديد من أدوية التخدير العامة والموضعية التي يختار الطبيب منها ما يشاء طبقًا لحالة المريض وللعملية الجراحية. ويفقد المريض الإحساس كاملًا، ويغيب تمامًا عن الوعي في حال استخدام أدوية التخدير العامة؛ ومن أبرزها:

  • الثيوبنتال Thiopental: اُكتشف في ثلاثينيات القرن الماضي، ويُعطى المريض إياه عن طريق الحقن في الوريد. ويتميز بسرعة أدائه لكن مفعوله قصير الأجل؛ لذا يُحقن المريض أولًا به ثم يُخدر بدواء آخر.
  • الهالوثان Halothane: اُكتشف في خمسينيات القرن الماضي، ويأخذه المريض عن طريق الاستنشاق، وهو أكثر أدوية التخدير استخدامًا إلى الآن.
  • الأيزوفلوران Isoflurane: يتشابه مع الهالوثان، لكنه يتميز عنه في إمكانية استخدامه لمرضى الكبد.
  • البروبوفول Propofol: من أحدث أدوية التخدير؛ اُكتشف عام 1977، ويعطى عن طريق الحقن في الوريد.

أما أدوية التخدير الموضعية فتفقد المريض الإحساس بالألم في منطقة معينة من الجسم، لكنه يكون مدركًا وواعيًا لما يحدث حوله؛ ومن أبرزها:

  • الكوكايين Cocaine: أقدم المخدرات الموضعية، ويستخرج من أوراق نبات الكوكا، وهو المخدر الوحيد الموجود بصورة طبيعية. اُكتشف في أمريكا الجنوبية وكثُر استخدامه في القرن السابع عشر خاصة في مجال طب الأسنان والعيون.
  • الليدوكايين Lidocaine: أكثر أدوية التخدير الموضعية استخدامًا وأوسعها انتشارًا إلى الآن، وهو مشتق من الكوكايين.

وظهر بعد ذلك التخدير النخاعي أو الشوكي Spinal anesthesia، ويطلق عليه التخدير النصفي، وفيه تُخدر المنطقة السفلية من الجسم. فيُحقن أحد أدوية التخدير الموضعية – مثل الببفاكيين Bupivacaine – في سائل النخاع الشوكي المحيط بالحبل الشوكي أسفل الظهر؛ فيفقد المريض الإحساس في الجزء السفلي من الجسم، لكنه يكون واعيًا لما يحدث حوله. ويكثُر استخدام هذا النوع من التخدير في حالات الولادة القيصرية.

ومع تطور العلم وظهور أدوية جديدة – مثل مرخيات العضلات التي تمنع تشنج العضلات أثناء الجراحة، ومضادات القيء التي تمنع إفراز اللعاب لحماية المريض من الاختناق، والمضادات الحيوية التي تُعطى قبل أو بعد الجراحة – أصبح الأمر أسهل كثيرًا، وقلّت الآثار الجانبية أو المضاعفات التي يمكن أن تحدث أثناء أو بعد العملية الجراحية.

وبالرغم من الطفرة التي حدثت في علم التخدير، والتي بفضلها تُجرى ملايين العمليات الجراحية سنويًّا في جميع أنحاء العالم، فما زال الإنسان في سعي مستمر ودءوب لإيجاد ما هو أفضل وأكثر أمانًا.

المراجع

medicalnewstoday.com

medlineplus.gov

medscape.com

ncbi.nlm.nih.gov

sciencedirect.com


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة «كوكب العلم»، عدد شتاء 2020.

Cover image by wavebreakmedia_micro on Freepik

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية