هذه الأرض الخصبة − أرض مصر − ابنة النيل التي رويت بخيره منذ آلاف السنين كانت غير الأرض التي نعرفها الآن. فقد كانت جزءًا من قاع محيط جبار عظيم، ولكنه تخلى عنها وتركها لتنبت عليها حياة من نوع آخر في عالم سيده كائن ميزه الخالق عن سائر المخلوقات بعقل يعي، ويفكر، ويختزن المعارف والمعلومات. ولكن، على الرغم من أنه تخلى عن هذه الأرض، فإنه ترك عليها آثارًا نشهدها واضحة جلية في أعماق الصحراء من كائنات بحرية متحجرة سواء دقيقة أو صغيرة أو كبيرة في حجم الحيتان الهائلة مختلفة الأجناس والأنواع. ومنها حيتان تمشي على أرجل قبل أن تتحور إلى زعانف بعد أن أبت أن تبقى على الأرض؛ فرحلت مع المياه المنحسرة أو آثرت أن تموت في مكانها بدلًا من الذهاب إلى المجهول.
تحولت الأرض إلى غابة ومرعًى لحيوانات برية مختلفة منها الديناصورات الهائلة التي كانت تزلزل الأرض عندما تتحرك في سعيها لتأكل وتشرب، كما كان منها ديناصورات صغيرة في حجم الماعز! واستمرت حياة الغابة آلافًا أخرى من السنين؛ فعاصرت دهورًا مطيرة وأخرى جليدية. وكانت القشرة الأرضية تتشكل والجبال تخرجها البراكين العملاقة، والأخاديد تشقها الزلازل فتملؤها مياه السيول. وظلت الكائنات الحية تتحور لتتأقلم مع المناخ أجيالًا بعد أجيال، فكان منها من صمد واستمر، في حين انتهت سلالة بعضها وأصبحت تاريخًا في ذاكرة الأرض.
جاءت عصور الجفاف فضربت أول ما ضربت الأجزاء الشمالية من إفريقيا؛ فهاجرت إلى الجنوب حيوانات كانت قد ألفت الخضرة والمياه، في حين بقيت كائنات في مواطنها الأصلية وعاشت على القليل من المياه والعشب، متجمعة حول البحيرات العذبة التي تكونت أثناء العصور المطيرة.
في ذلك الوقت، كان ثمة مجرًى عذب صغير تتغذى عليه روافد تأتيه من جبال البحر الأحمر وما كان يهطل عليها من أمطار، وحدث أن اتصل هذا المجرى المائي العذب بشقيقه الأكبر الآتي من بطن إفريقيا والذي تغذيه شرايين عديدة. وبعد أن كان مهددًا بالفناء لقلة أمطار روافده الشرقية أصبح شبابه يتجدد بمياه الجنوب حتى صارت هي المصدر الوحيد الذي يغذيه بالمياه، ومعها رواسب بدأ النهر يلقيها في نهاية كلِّ رحلة مكونًا أعظم دلتا لنهر على الأرض.
أخذ النهر يفيض عامًا بعد عام ليشكل على جانبيه أرضًا خصبة سوداء بلون إفريقيا كانت ولا تزال هي سر حياة مصر. ولكن متى ظهر الإنسان المصري؟ ومتى بدأت هذه الحضارة؟ الإجابة نجدها في الصحراء الغربية؛ حيث تم الكشف عن عديد من أماكن استيطان إنسان ما قبل التاريخ. فمنذ آلاف السنين قبل هجرة هذا الإنسان إلى ضفاف النهر، كان يعيش مع كائنات الغابة يحفر الكهوف ويسكنها. وكان يبني الشراك ليوقع بالحيوانات الهائلة الحجم، ويدبر أمور أسرته من الماء المتوافر، ولحم الطير والحيوان، والفاكهة والنباتات طيبة المذاق التي يجدها على الأشجار.
وقد طور هذا الإنسان البدائي حياته بدءًا بأدواته التي أخذت في التطور حتى بلغت حد الإتقان، بل إن بعضها صار ينظر إليه بمفهومنا على أنه قطع فنية! كما فكر في الكون من حوله، فعرف إمكانياته وتفرده وبدأت اختراعاته المذهلة، مثل السلاح الحجري الذي يمكن وصله بعصا خشبية فتصير مطرقة أو سهمًا أو رمحًا، والأعشاب الجافة التي تصلح لإيقاد النار وطهي اللحم والتدفئة. وكانت أولى فوائد النار تأثيرها في شكل الإنسان نفسه؛ فأخذت هذه الأسنان والأنياب الحادة المفزعة في ذلك الفك الرهيب تتهذب شيئًا فشيئًا. وصار فكه أصغر من ذي قبل وأسنانه صغيرة منمقة؛ فاستحسن الإنسان صورته وبدأت النساء يتجملن بالحلي المصنوعة من الأصداف والأحجار الملونة، كما صار الشعر يصفف بأمشاط من العاج.
لقد كان هناك دومًا شعور قوي يدفع الإنسان إلى الجمال والتحضر كلما سنحت له الفرصة. فقد أثبتت اكتشافات الصحراء الغريبة وجود الإنسان المصري قبل 35 ألف سنة، ووجود دفنات ليست للبشر فقط، مما يشير إلى وجود فكر ديني وعقائدي؛ كما أثبتت الحفائر أن هذا الإنسان كان يعيش في عصر الرعاة؛ حيث استأنس الحيوان ومارس مهنة الرعي في وجود موارد الماء والعشب.
بعد أن انحسرت الأمطار بدأ الإنسان يتجه نحو النهر ليعيش بجانبه. ومنذ اللحظات الأولى نشأت العلاقة الأبدية بين المصري ونهر النيل، علاقة لم يفسدها فيضان جارف أو سنوات خصام وجفاء من النهر الخالد الذي ألهم فناني مصر قديمًا وحديثًا، فصار بحق البصمة الجينية المشتركة بين كلِّ المصريين؛ إذ شرب ماءه كلٌّ من الملوك الفراعنة والنبلاء والأغنياء وأبناء الشعب الفقراء على حدٍّ سواء.
*هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2017.