قرية "السيد البدوي" محاصرة بين فساد الحكومة وغضبة البحر الناعمة

ahmed.alromi

الأهالى هجروها بعدما أنهكت تُربتها البشر والشجر والحجر

كتب | أحمد الرومى

وقفت "أم مصطفى" بجلبابها الفلاحى المنقوش بالزرقة، تحاول أن تغزل فى حكيها مأساة ما يزيد عن عشر سنوات من المعاناة، عاشتها فى مدينة "مطوبس". لكنتها البسيطة، وفطراتها المتقدة، أسعفاها لأن تبدأ الحكاية من نهايتها: "أحنا بنخافوا بليل من البحر وأحنا نايمين، موجه بيضرب "الدولى"  (وتقصد الطريق الدولى الساحلى) وبيوصل للبيوت" هكذا قالت.

لم تكن "أم مصطفى" تتخيل أن جارها البحر الذى جاءت لتسكن هناك بهدف استزراع الأرض، سيصبح مصدر خوف لها، ليس فقط من تهوره الموجى غير المأمون، ولكن من تأثير البحر العنيف على خصائص التربة بعد أن ضربها بالملوحة وقلل فرص زراعتها بتكاليف معقولة وإنتاجية مضمونة ودائمة.

فالسيدة الخمسينية "أم مصطفى" جاءت مع زوجها وأبنائها، ليستقروا ضمن 1300 أسرة فى قرية السيد البدوى، أكبر قرى "مشروع مبارك لشباب الخرجين"، الواقعة على الطريق الدولى الساحلى بمدينة مطوبس فى محافظة كفر الشيخ، لكنها أكتشفت أن غالبية بيوت القرية غير مأهول بالمزارعيين، ولا تصلح للسكنة، لتغير طبيعة الأرض بأستمرار، فهجرها أصحابها لشُح الخدمات، ووفرة الحياة الصعبة، وغضبة البحر الناعمة.

حكاية "أم مصطفى"، وأمثالها، بدأت عندما قامت الدولة ممثلة فى أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، ويوسف والى، وزير الزراعة الأسبق، بتخصيص قطعة أرض مساحتها أكثر من 13 ألف فدان، لأستصلاحها وتوزيعها على الشباب من أبناء كفر الشيخ، تحت مسمى "مشروع مبارك القومى لشباب الخريجين"، إلا أن الشباب الذين جاءوا إلى القرية من أجل استزراع الأرض وتكوين مجتمع جديد وقعوا فى فخ نصبه لهم فساد الحكومة وتغير المناخ.

فبعيدا عن النزاع الدائر بين وزارتى "الزراعة" و"الاوقاف" على ملكية الأرض (التى خصصتها الحكومة للمشروع) والذى عطل بدوره تنمية المنطقة ومد الخدمات لها، تجد أن الأرض التى خصصت للمشروع تقع فى منطقة غير صالحة للزراعة على المدى الطويل، فقرب الأرض الزراعية من البحر  المتوسط، الذى ينحر فى الشاطئ، يرفع نسبة الملوحة فى التربة بأستمرار، ما يعيق عملية الزراعة ويقلص أنواع المحاصيل المزروعة، إضافة إلى تلف وتصدع البيوت المبنية فى المنطقة، كون أن الأرض المقامة عليها غير مستقرة.

تقول "أم مصطفى": "الأراضى قدامك أهى، مافيهاش حد زارع، إلا الغنى خالص اللى عنده أملاك جامدة"  وتضيف: "أكتر الشباب اللى كانوا مستلمين أراضى باعوها ومشيوا، بيقولوا أن الأرض هتغرق، وكل اللى يسمع كده يسيب الأرض ويمشى بعد سنة أو أتنين. الأراضى دى متسلمة بقالها 12 سنة، وحاليا ماحدش قاعد فيها غير 200 إلى 300 أسرة من أصل 1300"

عندما خططت الدولة لهذا المشروع عام 2003، كان الهدف منه أن يكون موردًا جديدًا للإنتاج الزراعى وتشغيل الشباب المتعطل، إلا أن الوضع حاليًا يشير إلى فشل الدولة بقوة فى تحقيق ذلك الهدف، بعد أن أصبح هؤلاء الشباب (الذين أصبحوا الآن كهولًا) يعيشون على الإعانات من قبل الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدنى.

تقول "أم مصطفى": "أحنا بتجينا مأونة بسيطة من مصر بيوزعها أهل الخير على الفقرا والأرامل، ومابيخدش منها لا الغنى ولا الموظف، بيتجى للغلابة بس".

فرص الزراعة فى قرى الخريجين ليست معدومة، فهناك مستثمرين قاموا بشراء عدد كبير من الأفدنة من الشباب المعدمين وزراعوها، وهو أمر تكلفته باهظة للغاية، فالأرض تحتاج إلى ردمها بالرمال سنويا للحد من ملوحتها، ويصل تكلفة ردم الرمال إلى 100 ألف جنية للفدان، بما يعادل مليون جنية  للعشرة أفدنة.

بعض المستفيدين من المشروع دفعهم  تدهور حال الأرض الزراعية، إلى هجرة الفلاحة والبحث عن وظيفة تدر له دخلًا ثابتًا يستطيع العيش منه. "حسين غازى حسين أحمد" أحد هؤلاء، قال أنه عمل 9 سنوات فى الوحدة الصحية بقرية السيد البدوى، بمطوبس، سعيًا وراء التعيين، لم يتلق أى أجر خلال هذه الفترة، بحسب تأكيده، بل قال أنه كان يفعل ذلك بالتوازى مع عمله مزارعًا، موضحًا: "أنا كنت مزارع عايش على دراعى، قبل السعى للوظيفة، فضيق الحال دفعنى لكده".

نجح "حسين" مؤخرا فى الوصول لمراده، بتعيينه فى وحدة السيد البدوى الصحية (الخربة على حد وصفه) منذ ما يقرب العام، تاركًا مهنة الزراعة بعدما أصبحت لا تدر ربحًا.

الحاج "كامل"  أحد مزارعى قرى الخريجين، مهنته الأصيلة هى الزراعة، أشترى قطعة أرض فى قرية السيد البدوى، دون اختبارها، قال: "أنا ماعطتش خوانة وأنا بشترى الأرض دى؛ لان اللى عطيها لنا الحكومة، والحكومة عمرها ما هتضحك علينا، ما كنتش أعرف أنها ضحكة علينا وأدتنا أرض سبخة (أى مشبعة بالملح)".

أخبرنا الحاج "كامل" أن أختيار موقع المشروع كان خطأ فى الأساس، حيث أن الأرض غير مؤهلة للزراعة الدائمة، فقال: "يا خبـــــــــــر! 17 سنة غلط؟! طب مين اللى هيدفع تمن العمر ده؟".

الحاج "كامل" أحد الفلاحين الذين يحاولون مغالبة ملوحة الأرض بردمها برمال يجلبها من المصارف، لتكلفتها القليلة، دون أن يدرى أن تلك الرمال هى أيضا تضربها الملوحة.

ختم الحاج "كامل" حديثه بسؤال حاول فيه أن يتلمس أملا لحل أزمة هذه القرية المنكوبة، بفعل الفساد البشرى والتغيرات المناخية، قائلا: "يا ترى الحكومة الجديدة هتعمل لنا حاجة ولا مش هتعمل زى اللى قبلها؟"

Bibliotheca Alexandrina