لنقترب سويًّا من «ماري كوري»

شارك

في 20 مايو 1921، وقف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في ساحة الاستقبال بالبيت الأبيض وحوله سفير فرنسا، ووزير بولونيا المفوض، وأعضاء حكومته، ورجال العلم والقضاء. كانت تقف أمامه سيدة نحيفة وديعة المنظر مرتدية ثوبًا أسود؛ فخاطبها الرئيس قائلًا: «كان من حسن حظك أنك قمت بخدمة للإنسانية مجيدة وخالدة، ولقد عُهد إليَّ أن أقدم لك هذا القدر الضئيل من الراديوم – جرامًا واحدًا - فنحن مدينون لك بمعرفتنا له وامتلاكنا إياه؛ لذلك نرفعه إليك واثقين أنه وهو في حوزتك لا بد أن يكون وسيلة لتوسيع نطاق العلم والبحث وتخفيف آلام الناس». تلك السيدة كانت «مدام كوري».

ولدت «ماري سكلودوفسكا»، التي نعرفها اليوم باسم مدام كوري، في مدينة وارسو ببولندا يوم 7 نوفمبر 1867م؛ كان والدها أستاذًا لعلم الفيزياء في المدرسة العالية بوارسو، وكانت والدتها عازفة بيانو ماهرة.  ورثت «مانيا» - وهو اسم التدليل بدلًا من ماري - عقل والدها ويدي أمها؛ فأظهرت كفاءة مبكرة وحبًّا عظيمًا للعلوم التجريبية. ولكن والداها لم يسمحا لابن من أبنائهما الخمسة بإرهاق نفسه في المذاكرة؛ فقد كانت هناك عدوى لمرض السل تسري في الأسرة.

كان الأطفال أبناء «سكلودوفسكا» يرددون بعد صلاتهم كل مساء: «نرجوك يا ربنا أن تعيد لوالدتنا صحتها»؛ فقد كانت الأم مريضة بالسل وأراد الله أن يأخذ «مدام سكلودوفسكا» من بين أبنائها وعمر «مانيا» وقتها كان عشر سنوات. كانت الأسرة تجتمع حول المائدة بعد رحيل الأم حزينة فقيرة؛ فقد فقد الأب منصبه في المدرسة العالية بسبب نشاطه السياسي تجاه تحرير بولندا من طغيان القيصر الروسي. وافتتح الأب مدرسة داخلية، ولكنها لم تحقق نجاحًا يذكر؛ فواجه الأب وأولاده حالة متأزمة من سوء العيش رغم تفتح عقولهم وإقبالهم على الحياة.

تلك كانت الظروف المحيطة بنشأة «مانيا»، ورغم ذلك عبرت الأسرة تلك الظروف الصعبة بين فقر وحاجة من جهة، وبين مقاومة ونشاط سياسي واضطراب من جهة أخرى. وتمر السنون، وتتخرج «مانيا» في المدرسة الثانوية، وتحصل على ميدالية ذهبية للتفوق عام 1883م. وانقضى عام قضته «مانيا» في الريف في بلدة أمها، عادت بعده إلى وارسو حيث واجهت مستقبلًا غير مضمون؛ فرغبت شقيقتها الكبرى «برونيا» في أن تدرس في جامعة السوربون، وكانت «مانيا» تريد  الشيء نفسه، ولكن كيف يمكن تحقيق هذا والأسرة ليس لديها من المال ما يكفي إلا للإنفاق على واحدة فقط؟

بدت مشكلة مستعصية الحل؛ فانبرت «مانيا» قائلة: «ولكنني أرى حلًّا»، وأفصحت عن فكرتها: «سوف أجد لنفسي عملًا وأساعدك حتى تكملي دراستك، ثم تساعدينني أنت بعد ذلك»، وقد أتت هذه الخطة ثمارها وتحققت. عملت «مانيا» مربية أطفال لدى سيدة فظة ضيقة الخلق وصعبة الطبع تقتصد من حقوق العاملين لديها وتلعب القمار. الحب الأول لمانيا كان لشاب يدعى «كازيميير»، ولسوء الحظ كان هو ابن تلك السيدة التي كانت تعمل عندها «مانيا»؛ فرفضت بالطبع هذه الأم العنيدة زواج ابنها من الفتاة التي تعمل لديهم.

تمر الأحداث والسنوات على «مانيا» ولم تتخل عن خطتها وطموحها؛ فقد تمكنت أختها «برونيا» بفضل مساعداتها من إتمام دراستها للطب بالسوربون، وجاء دورها في الاتفاقية التي عقدتها مع أختها. وبالفعل تلتحق «مانيا» بكلية العلوم وكان عمرها 23 عامًا، وقضت أربع سنوات من الكفاح المتواصل بين الدراسة، والعمل، والاقتصاد في العيش والمصاريف، بعد أن عجزت أختها عن الوفاء بوعدها.

واشتغلت «مانيا» بكلية العلوم تغسل أدوات المعمل، وتقوم بتنظيف الأفران، وتحضر التجارب العلمية؛ فساءت صحتها بسبب سوء التغذية والإرهاق بين الدراسة والعمل. وعلى الرغم من ذلك، تغلبت على كل الظروف وحصلت على ماجستير مزدوج في الفيزياء والرياضيات عام 1893م؛ ثم تزوجت الدكتور «بيير كوري» - رئيس المعمل في مدرسة البلدية للكيمياء والطبيعة بباريس - الذي كانت له إسهامات علمية قيِّمة، وكان عمره 35 عامًا، وحملت «ماري» اسمه فيما بعد.

بعد الزواج كانت «ماري» أو «مدام كوري» تقوم بشئون المنزل، وقد وَلَدت طفلة ثم أتبعتها بأخرى، ومع الحمل والولادة كانت تدرس لنيل درجة الدكتوراه في الفيزياء. قامت بمجهود مضنٍ وعمل متواصل؛ فأصيبت بتلف في رئتها اليسرى من جرَّاء العدوى المتوارثة في عائلتها. ونصحوها الأطباء أن تلزم إحدى المصحات، ولكنها لم تعرهم اهتمامًا، واستمرت في أبحاثها هي وزوجها، وحققت إنجازات غير مسبوقة؛ حيث دفعت زوجها إلى إجراء مزيد من التجارب على اكتشاف وليم رونتجن للأشعة السينية وخواصها المذهلة في النفاذ خلال الأجسام. وحصلت على درجة الدكتوراه في هذا المجال من جامعة السوربون، وكانت تلك هي البداية لاكتشاف الراديوم.

لقد بدأت مدام كوري في سلوك طريق يوصلها إلى شهادة من شهادات الدكتوراه، ولكنها غير ذلك وجدت نفسها – في نهاية الطريق – أمام جائزتي نوبل. ولم يتسع هذا المقال للكشف عن مزيد من الأسرار لامرأة طبعت اسمها بقوة على الخط الزمني لتاريخ العلوم.

*المقال منشور في مجلة كوب العلم، عدد النساء والعلم (ربيع 2016).

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية