Speaker Details

Dr Aaly   El Marawani
محافظ المتحف الوطني

Presentation Abstract:

وسائط التبادل التجاري عبر الصحراء

 ( حالة موريتانيا)

 لا يجادل أحد في كون الصحراء الكبرى ظلت نقطة عبور بين الشمال الإفريقي والسودان، عاش فيها الإنسان حياته الأولى على الجمع والالتقاط والصيد، ثم عرف الزراعة، وتطور إنتاجه حتى أشبع حاجاته وأصبح يفيض، وبذلك كان لا بد من تصريفها وهكذا وضحت الحاجة إلى مبادلتها بغية اقتناء حاجيات أخرى، وبذلك ظهرت المقايضة أو المقابلة، وفي فترة متأخرة بدا أنه لا مناص من الاتفاق على سلعة قياسية وسيطة، على أساسها تقاس قيمة باقي السلع وهي النقود.
ونحن في هذا الموجز سنحاول تبيان أسس وأوجه التبادل التي كانت قائمة في هذا الإقليم من البدايات حتى اليوم، على أن نفصلها لاحقا في المداخلة الأصلية.
إذا فإن وسائط التبادل والتعامل التجاري في هذه الناحية ارتكزت على عنصرين ظلا متلازمين إلى عهد قريب ألا وهما.
1- المقايضة ( المقابلة)
2- التعامل بالنقود والمعادن النفيسة

1. المقايضة ( أو المقابلة)
إن المحرك الأساسي لهذه التبادلات، هو التجارة عبر الموانئ البرية ممتطية ظهور الإبل أو الجمال ووفق المسالك الصحراوية المتعددة والمحددة كالتالي:
- المحور الغربي: يربط بين وادي درعه شمالا وغانه جنوبا وهو ما يعرف بطريق اللمتوني، ويمسى أيضا طريق الملح
- المحور الأوسط: الرابط بين سجلماسة ، أتوات شمالا "وعقفة نهر النيجر جنوبا" حيث كانت المبادلات في صورة العروض الآتية، حيث يصدرون من المغرب القمح والفواكه اليابسة (التمور والعنب) والقطن والعاج، بينما يستقدمون من بضائع السودان والصحراء، الصمغ والذهب والملح والجلود والنحاس ناهيك عن العبيد.
وعرف الإنسان الإفريقي طرق أخرى كانت مسارا لبضائع وعروض متخصصة، كطرق (الملح، والذهب ، والحديد والعبيد ..الخ)
أما وسيلة التبادل التي ظلت من القدم راسخة في العقول الإفريقية فهي المقايضة (المقابلة) ذلك أن الإنسان لما بدأ إنتاجه يفوق حاجياته، فكر في كيفية تصريفه، إذ لا يمكن لإنسان أن يكتفي بإنتاجه مثلا  فهو يحتاج إلى ( اللحوم، الأدوات الزراعية الأقمشة.....الخ) وقد أدركت وأنا حدث في بلدتي المتاخمة لبلاد السودان (مالي) أننا كنا نشتري الخبز بالمقابلة وذلك بأنه عندنا يصنع الخبز من الذرة فأقابل مثلا أربع خبزات بربع من الذرة المعروفة عندنا ( بالربعية ) وكانت البائعة عندما نأتي للمبايعة ونحن صغار، لا تنقبل المبايعة إلا من ( بدل) الأسنان، أي خرجت أسنانه الأمامية. وقديما كان العبد يباع بقدر قدمه ملحا وهكذا نلاحظ في المقايضة مشكلات ما زالت مطروحة حتى الآن منها.
- صعوبة تحقيق التوافق بين رغبات المتعاملين
- صعوبة تقدير نسبة المقايضة
- عدم قابلية بعض السلع للتجزئة

2. التعامل بالنقود والمعادن النفيسة
إنه من المعروف أن الصحراء الموريتانية، كانت تعرف بالبلاد السائبة ذلك أنها لم تعرف قط نظاما سياسيا مركزيا، تضبطه سلطة تحكم وتوجه مصالح المجتمع، وقد سعى علماء الدين بالإرشاد والتوعية إلى أهمية هذا النظام، حيث نجد الشيخ محمد المامي اليعقوبي المتوفى 1856 يحدد الفضاء الموريتاني قائلا: "ونحن أهل بادية في فترة من الأحكام  بين العمالتين الإسماعيلية في الشمال والبوصيابية في الجنوب"
 إلا أننا نقف محتارين عندما اكتشفت قطع نقدية من العهد الروماني في فترات متباعدة وأماكن مختلفة، إذ عثر الملازم زيغلر سنة 1952 شرق أكجوجت في شمال موريتانيا على قطعتان فضيتان: إحداهما من القرن الأخير قبل الميلاد والأخرى في القرن الأول من الميلاد، أما الثالثة فقد تم العثور عليها من طرف الأستاذ والباحث الفرنسي ديدي كارتيني مارس 1983 في أنواكشوط من الشمال الشرقي هذه القطعة الأخيرة للامبراطور سيفير، 373 من دليل coins the  Roman empire.in the britsch museum  وهذه هي الطبعة السادسة.
إذن هل هذه مجرد نقود كانت تحملها بعض القوافل العابرة للصحراء، أم هي مسكوكات في آثار مازالت  لم تكتشف لحضارات رومانية عمرت صحراء نوميديا، أم لبعض الرحالة الذين يجوبون هذه المناطق لغايات ومآرب لا ندرك كنهها.
 وحتى تقام حفريات جادة في هذه المواقع تزودنا بمعلومات كانت مجهولة، فإنه لا يمكن أن نجزم بوجود روماني فعلي في هذه الأماكن.
 كذلك عرفت المنطقة وسائط أخرى تبناها السكان المحليون كوسيلة تبادل منها صفائح الذهب، والنحاس وقطع الملح، والونزري أو ( الودع) المعروف محليا بالطينطاس المستجلب من المحيط الهندي، وهنا أذكر هذه الأبيات للشاعر الولاتي:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
                       بعيد العشاء عند الإمام ببمبري
يجاذب أطراف العلوم وتارة
                     يحدث عن صغرى وعن صرف ونزري
كان لوجود معادن الذهب في مالي وغانة أثر كبير في ازدهار التجارة في هذه الربوع ( بوري، بامبوك، قلم) إذ كان الأعيان في غانه وأوادغست وإيولاتن يلبسون الثياب الفاخرة المستجلبة من مصر، حيث يفيدنا ابن بطوطه في معرض زيارته لإيولاتن قائلا: ( ومدينة إيولاتن شديدة الحر وبها يسير نخلات يزرعون خلالها البطيخ ، وثيابها حسان مصرية) وكان لرحلة المنسى موسى للحج في منتصف الرابع عشر الميلادي أثر كبير في المشرق إذ أدى إلى سقوط قيمة الذهب في تلك الأسواق، وظل المصريون يتداولون قصص مروره بمصر ومظاهر أبهته وكرمه مد ة قرن من الزمن.
ومن العملات التي تم تداولها في الصحراء والغرب الإفريقي، يذكر لنا أبن حوقل الذي مر بأوداغست في القرن العاشر ولاحظ وجود دينار ذي إشارات شيعية، نتيجة للتبادل الذي كان قائما بين افريقية والإمارة اللمتونية، وغير بعيد عن ذلك من منتصف الحادي عشر ظهرت حركة المرابطين الذي كان من نتائجها انقضاء المماليك السودانية الغنية بالذهب كغانة مما حدى بهم إلى سك عملة عرفت بالدينار المرابطي المصنوع من الذهب الخالص في عهد يوسف بن التاشفين ما بين (480هـ 500) ونجله علي بن يوسف ( 500- 537 هـ) في ورشات سجلماسة، مراكش ومالقه، وقد تم العثور في هذا السياق في ولاية موريتانية تدعى تكانت، قرب مدينة تجكجة وعن طريق الصدفة على علبة وجد بداخلها 260 دينارا مرابطيا من الذهب الخالص سنة 1967  وبعد معاينته ومقارنته بمثيلاته تم التثبت من أنه مضروب في ورشة بملقة 1105 – 1111 م أي متطابقا مع عهد علي بن يوسف وهي الآن محفوظة لدى المتحف الوطني. وفي هذه الفترة يذكر لنا ابن الفقيه الهمداني أنه شاهد في أوداغست شهادة بدين على محمد بن السعدون قدرها 42 ألف دينار.
ولما تغلغل الاستعمار الذي أدى للاحتلال الغربي الإفريقي  كان ذلك إيذانا بنشاط ملحوظ بالتعامل بالنقود وكانت بداياته عندما جنحت فرقاطة لاميدوز بالشواطئ الموريتانية عند حوض أرغين 1816 م، الذي كان من ضمن حمولتها العسكرية 3 براميل من الفضة، والتي يبدو أنها كانت موجهة لتسيير الأمور السياسية والعسكرية، وهكذا عرف الفرنك الفرنسي القديم ومشتقاته أساسا للتعامل في هذه المنطقة وأطلق على مشتقاته السكان المحليون مسميات ذات دلالات أصبحت مجهولة الآن.
إذ نذكر منها الآن وحدات كالسفاي والنينية والطنك والكوبراية  والبكني والأوقية وكل هذه مسميات لعملات فرنسية أدمجت في التراث الشعبي.
ونخلص مما تقدم أن اعتماد النقود في بلادنا هو إجماع على سلعة تجمع بين المنفعة والبقاء على الحوادث، وهي أصلا الفكرة التي أوحت للناس أن يتخذوا من المعادن وسيطا للمبادلات لأن المعادن معيار ثابت لا يتعرض للضياع.
وأنه يتحتم علينا تسجيل مختلف أوجه هذه المبادلات و حفظها لتستفيد منها أجيال المستقبل.
إن أهمية فتح المواقع لإقامة تنقيبات أثرية جديدة، يمكن أن يزودنا بأدوات ومسكوكات إضافية  تمكن من الإجابة على الكثير من التساؤلات في هذا الميدان.