مؤتمر الإصلاح العربي ٢٠٠٤  

 
  كلمة السيد الرئيس محمد حسني مبارك أمام مؤتمر "الإصلاح العربي .. الرؤية والتنفيذ"   

الأخوة والأخوات

يسعدني أن أرحب بكم في مصر في مستهل أعمال مؤتمركم الرائد حول " الإصلاح العربي .. الرؤية والتنفيذ"، الذي ينعقد اليوم في مكتبة الإسكندرية، بما تمثله كمنارة للبحر المتوسط في الثقافة والعلوم، وما تضيفه من قيمة تاريخية ومكانة حضارية عربية لسعيكم الدؤوب نحوالتحديث والتطوير والإصلاح، وما تؤكده من اهتمام بإحياء تراثنا العربي لكي ينير طريقنا نحومستقبل أكثر إشراقا وازدهارا .

فقد آمنت شعوبنا بالحاجة إلى التحديث والتطوير ومواكبة روح العصر، وبضرورة الاستفادة مما قدمته وتقدمه العولمة من فرص سانحة للقضاء على المشكلات الهيكلية الحقيقية القائمة في البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدول والمجتمعات العربية، ولإحراز التقدم المطلوب في تلك المجالات تحقيقا لطموحات شعوبها وتطلعاتها نحومستقبل أفضل، إلا أن هذه الجهود لم تنجح بعد في سد الفجوة القائمة بين ما حققناه من تقدم من جهة، وقدرتنا على التواؤم مع المتغيرات المتلاحقة على الساحتين الدولية والإقليمية من جهة أخرى .

ومن هنا، فقد انعقد في العالم العربي العديد من المؤتمرات والاجتماعات والندوات، التي أنصبت حول بلورة رؤية عربية واضحة لسد هذه الفجوة من خلال بذل جهد أكبر في مجالات التحديث والإصلاح، يقضي على سلبيات الماضي، ويضمن الحفاظ على هويتنا وذاتيتنا وخصوصياتنا العربية والإسلامية المتميزة. ونجحت تلك المؤتمرات - دون شك – في إظهار اهتمام مجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج بوضع وتنفيذ سياسات تتطور باستمرار، لتتفاعل مع المتغيرات والتحديات الدولية والإقليمية تحقيقا لمصالحنا الذاتية .

وفي ضوء ذلك، فإن مؤتمركم اليوم يكتسب أهمية محورية تنبع من عدد من الاعتبارات :

  • أولها: انعقاده بمبادرة ذاتية من عدد من المنظمات العربية غير الحكومية ومجالس رجال الأعمال، وتمثيله لأوسع قطاع ممكن من المتخصصين وأصحاب الفكر والرأي، ومن الكتاب والباحثين والمهتمين بالشئون العربية بمختلف أفرعها، ودون مشاركة حكومية .

  • وثانيها: أن هذا المؤتمر ببرنامج عمله الطموح يمكن أن يشكل بوتقة عربية متكاملة، تنصهر فيها كافة النتائج التي توصلت إليها المؤتمرات والاجتماعات السابقة، ليخرج برؤية عربية شعبية متكاملة للتحديث والإصلاح في العالم العربي، تغطي كافة جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقدم أفضل دليل على قدرة مجتمعاتنا العربية على التوصل لرؤى متكاملة، وتوفر الحافز الرئيسي للحكومات العربية لتحقيق تواصل حقيقي مع المجتمع المدني في قضايا التحديث والتطوير .

  • وثالثها: أن انعقاد هذا المؤتمر يتوافق مع اقتراب موعد انعقاد القمة العربية القادمة في تونس نهاية هذا الشهر، مما يشكل فرصة ثمينة ينبغي أن تستغلها الحكومات العربية، بالدفع نحوتنفيذ رؤية حكومية/ شعبية مشتركة للتوجه نحوالتحديث والإصلاح، في إطار يؤدي للتوصل إلى توجه استراتيجي عربي متكامل، يعبر عن آراء وتطلعات شعوبنا العربية .

  • ورابعها: أن انعقاد هذا المؤتمر يتزامن مع الجدل الدولي الدائر بشأن العديد من المبادرات التي تم طرحها حول قضايا الإصلاح في العالم العربي، والتي يجري النظر في طرحها أمام اجتماعات دولية وإقليمية مختلفة لاعتماد خطط ومواقف للتحديث والإصلاح في الشرق الأوسط، في الوقت الذي لم تخرج فيه الأمة العربية بعد برؤية قومية متكاملة حول هذه القضايا .

فقد اتفقت جميع حكومات وشعوب المنطقة العربية على أن استراتيجيتنا لتحقيق مستقبل أفضل تقوم على محورين رئيسيين، أولهما الدفع بجهود التحديث والتطوير القائمة على الرؤى الذاتية للمجتمعات العربية وعلى أساس من التوافق والتلاحم بين الحكومات العربية وشعوبها، وثانيهما الدفع نحوالتوصل للسلام العادل والشامل في منطقة الشرق الأوسط وإخلائها من كافة أسلحة الدمار الشامل لتوفير المناخ السياسي اللازم لانتشار مشاعر السلام والأمن والاستقرار كمكونات رئيسية تعزز من مجهوداتنا في التطوير والتحديث، وترسخ من توجهنا نحومزيد من التعاون الإقليمي والدولي الفعال .

وقد بذلت كل من دولنا العربية جهودا كبيرة لتحقيق إصلاحات هيكلية وتنظيمية في كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في إطار يراعي تحقيق التوازن الدقيق بين الآثار الإيجابية والسلبية لعملية الإصلاح، ويأخذ في الحسبان تنوع الخصائص الثقافية والدينية والتركيبة السكانية لكل مجتمع، وضرورة اتباع أسلوب إصلاحي لا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، ولا يسمح بتولي قوى التطرف والتزمت لزمام الإصلاح وتوجيهه لوجهة لا تتفق مع رؤى المجتمع .

وعززت دولنا العربية المختلفة تدريجيا من المشاركة الشعبية والمجتمعية في جهود التحديث والإصلاح جنبا إلى جنب مع المجهودات الحكومية، حتى تأتي النتائج محققة لآمال الشعب وطموحاته.. ومن هنا ازدادت المسئولية الشعبية والمجتمعية – وخاصة مسئولية منظمات المجتمع المدني ومنظمات رجال الأعمال – عن طرح الآراء والأفكار المبتكرة التي يجب أن تتخذها الحكومات كأساس لصياغة نهج قومي عام تجاه قضية الإصلاح والسعي لتنفيذها بالمشاركة الشعبية والمجتمعية الفعالة، بالإضافة للسعي لصياغة رؤية عربية أكثر شمولا وتحديدا لقضايا الإصلاح، في العالم العربي .

ولا شك أن ذلك يلقي على عاتقكم – أيها الأخوة والأخوات – بمسئوليات كبرى، ليس فقط من خلال المشاركة بالرأي والمساهمة في صياغة وتنفيذ التوجهات، وإنما من خلال إيضاح الصورة الحقيقية لشركائنا في التنمية وفي مجهودات التحديث والإصلاح .. فأنتم أدرى بنبض مجتمعاتكم، وأكثر قدرة على التعبير بصدق عن التيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها، وأكثر إحساسا برغبة شعوبكم في مزيد من الحرية والديم وقراطية واحترام حقوق الإنسان، وفي مزيد من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل وبإصرار شعوبكم على القيام بذلك من منطلق ذاتي دون فرض أوتوجيه .

وحتى يتسنى لشعوبنا ومجتمعاتنا العربية بذل قصارى جهدها في مجال التحديث والتطوير والإصلاح، فلا بد من الاهتمام بالمحور الثاني لاستراتيجيتنا العربية نحوتحقيق مستقبل أفضل، من خلال التوصل للسلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، خاصة بعد أن تقدمنا بمبادرة السلام الشاملة والجريئة التي اعتمدتها القمة العربية ببيروت، والتي ما زالت لا تلقى الاهتمام الكافي لوضعها موضع التنفيذ مع غيرها من المبادرات، وآخرها خريطة الطريق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، وكذا من خلال المعالجة الحاسمة للتدهور الحاد للأوضاع في العراق الشقيق بهدف إعادة السيادة والأمن والاستقرارإليه، بعد أن أظهر التعامل معه ازدواجية واضحة في المعايير لدى التعامل مع قضايا حيازة أسلحة الدمار الشامل .

وينبغي أن يكون واضحا أن استمرارية هذه الأوضاع، فضلا عن التجاهل المتعمد للانتهاكات اليومية التي تقوم بها إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة وللإدانة الدولية والإقليمية لها، لن يخدم سعينا نحوالتحديث والإصلاح، وإنما يقوي من شوكة الإرهاب والتطرف المستند إلى مشاعر اليأس والإحباط في المجتمعات العربية، التي تقارن بين السعي الخارجي لفرض إصلاحات بعينها عليها – قسرا أوطواعية – وبين التجاهل التام للانتهاكات التي تقوم بها أطراف أخرى، المقترن بتجاهل المجتمع الدولي وقوى السلام للحاجة الماسة لدول منطقة الشرق الأوسط للتوصل للسلام والأمن والاستقرار، في أطر من العدالة والمساواة والشرعية الدولية، التي نتخذها كأسس لدعم ودفع جهودنا نحوالإصلاح والتحديث، ونحوتخفيف حدة التطرف واللجوء للعنف .

وهنا، فقد قدمت مصر القدوة والمثل، من خلال ما بذلته من جهود مضنية على مر السنوات الطويلة الماضية لتسوية القضية الفلسطينية، وللتعامل السياسي ثم العسكري مع العدوان العراقي على الكويت، ولتعزيز روح الاعتدال الديني والتسامح والتعاون في المنطقة.. في نفس الوقت الذي قامت فيه بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية رائدة، حققت من خلالها تقدما ملموسا في كافة جوانب الحياة.. إلا أن قدرتنا على الدفع قدما بجهود الإصلاح والتحديث في مصر والدول العربية ستتناقص ما لم تشعر شعوبنا بأن الهدف الحقيقي من هذه الجهود هوإشاعة السلام والأمن والاستقرار، وليس إتاحة الفرصة لطرف ما للسيطرة أوالهيمنة على المنطقة العربية بأسرها .

الأخوة والأخوات

إذا كانت بعض التقارير قد أظهرت قصورا في تنفيذ خطط التطوير والتحديث والارتقاء بالمجتمعات العربية، مما يؤكد أهمية دفع جهود الإصلاح بمزيد من الجد والإصرار، فإن ذلك يعكس – في نفس الوقت – الحاجة لدعم خارجي قوي لجهودنا الذاتية نحوالتحديث والإصلاح، ولكن دون محاولة فرض نمط خارجي موحد، أوالسعي لتحقيق أهداف لا تتفق مع خطط الدول العربية في هذه المجالات .

وفي هذا الإطار، فإن التعاون الدولي الهادف لإقرار السلام والأمن والاستقرار من شأنه أن يرسخ من دعائم عمليات التحديث والإصلاح، ويعمق من الالتزام الوطني بالمضي قدما فيها والتغلب على كافة مصاعبها، إلا أن هذا التعاون لا يجب أن يتمشى مع من ينادي بالاعتماد على الوسائل العسكرية فحسب، وإنما بتعزيز الاعتماد على كافة وسائل العلاقات الدولية والإقليمية – السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأفضليات التجارية والمساعدات التنموية – لتحقيق هذه الأهداف .

ولدينا بالفعل مع العالم الخارجي أطر راسخة لتعميق هذا التعاون، أهمها الأطر الأورو– متوسطية واتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تنص على التزامات متبادلة بالتعاون في مجالات الإصلاح المختلفة، والاتفاقيات الإطارية للتجارة والاستثمار واتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة التي تتضمن أيضا التزامات متبادلة في نفس المجالات، واتفاقيات المعاملات التفضيلية والتنموية مع القوى الأخرى كاليابان والصين وروسيا وغيرها من الاقتصاديات الناهضة والمجتمعات المنفتحة، والتي يجب أن تصب جميعها في النهاية في دعم الجهود الذاتية للإصلاح، بما يسهم في تحقيق الأمن والسلام والاستقرار لجميع الأطراف .

وعلىنا أن نأخذ دوما في الاعتبار أهمية تعزيز الترابط بين الجهود المبذولة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية، والجهود المبذولة في كل من الدول العربية – وفي الدول العربية مجتمعة – في سبيل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في إطار يحافظ على الهوية الإقليمية العربية – دون إضافة أوانتقاص – ويقوم على قيم ومبادئ مشتركة تحظى بالتوافق العام في العالم العربي .

كما يتعين أن ننطلق من اقتناع كامل بأن الديانة الإسلامية تنادي بالتحديث والتطوير ومجاراة روح العصر، وتقوم على التسامح والإخاء والتراحم وعدم الإضرار بالغير إلا دفاعا عن النفس.. ومن هنا، فينبغي على المجتمع الدولي عدم التعامل مع الثقافة الإسلامية كثقافة للتطرف والعنف، وإنما كثقافة للتعاون والمشاركة لتحقيق المصالح، في إطار من الندية والحفاظ على الحقوق والالتزام بالواجبات .

وانطلاقا من هذه الرؤية المتكاملة لسعينا الذاتي نحوالتحديث والإصلاح، فإن ما نبديه من آراء وملاحظات على ما طرح من مبادرات لإصلاح العالم العربي لا يعكس رفضا للإصلاح أوتراجعا عن التزامنا به على كافة المستويات الحكومية والشعبية، وإنما يعكس التزاما ببذل جهود أكبر فيه، إذا ما انطلقت هذه المبادرات نحوتعزيز قدر ة الدول العربية على إجراء إصلاحاتها الذاتية من خلال تعزيز التعاون والمشاركة، والانفتاح على المجتمع الدولي على أساس من التكافؤ والاحترام المتبادل .

الأخوة والأخوات

من هذا المنطلق، بدأت مسيرتنا الذاتية نحوالإصلاح السياسي في مصر منذ سنوات عديدة، لتستمر وتتطور وتتعمق ممارساتها، أولينا فيها اهتماما خاصا بوضع الأسس الراسخة للبناء المؤسسي للدولة، وخلق مناخ ديمقراطي يضع المواطنة وتكافؤ الفرص وحرية التعبير عن الرأي – بغض النظر عن الجنس أوالديانة – كحقوق أساسية تعزز من المشاركة الشعبية ومن دور المجتمع المدني، وتكفل المساواة التامة بين أبناء الوطن جميعا، وتضمن لهم ممارسة كل الحقوق المدنية والسياسية التي كفلها لهم الدستور والقانون، في إطار من الحرية والشرعية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، تحت مظلة قضاء عادل نزيه يسهم في إثراء تجربتنا الديمقراطية وتعميقها .

وتواكب مع ذلك كله جهود رائدة في عملية التنمية والإصلاح الاقتصادي، نجحنا من خلالها في التحول من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق، وشجعنا القطاع الخاص على المشاركة بقوة في حركة الاقتصاد الوطني، وبذلنا وسنبذل جهودا مكثفة لإزالة العقبات البيروقراطية التي تقف في سبيل إقامة صناعات جديدة تستوعب أعدادا كبيرة من قوة العمل، وتسهم في حل مشكلة البطالة وزيادة الصادرات في نفس الوقت، وقدمنا حوافز تكفل جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والوطنية، واتخذنا قرارات شجاعة كان أهمها تحرير سعر الصرف والبدء في إعادة هيكلة نظامنا المالي والضريبي والجمركي، وأعدنا تحديد دور الدولة لينحصر في المواقع الاقتصادية والإستراتيجية التي ترتبط بها مصالح الغالبية العظمى من الجماهير، والتي تكفل ضبط إيقاع حركتنا الاقتصادية .

وفي المجال الاجتماعي، تركز إصلاحنا على الارتقاء بنوعية التعليم بكافة مراحله، وبالقضاء على الأمية، وحققنا إنجازات رائدة في مجال الرعاية الصحية، وضاعفت الحكومة من مجهوداتها لتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ولحماية محدودي الدخل، والاهتمام بالتنمية البشرية، وخاصة في قطاعات الشباب والمرأة بهدف إتاحة المزيد من الفرص المتزايدة للحياة الحرة الكريمة، وتنشئة أجيال جديدة قادرة على تحمل المسئولية في كل مكان .

الأخوة والأخوات

إذا كان من حقنا أن نفخر بما حققته الدول العربية من إنجازات في مسيرة الإصلاح والتحديث التي أحدثت نقلة نوعية في حياتنا، بل وفي الركائز التي تقوم عليها مجتمعاتنا، فعلىنا في نفس الوقت أن ندرك أن عالمنا العربي يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، نستهدف فيها جميعا تثبيت المكتسبات التي تحققت، وتعميق جذور عملية الإصلاح إرساء للدعائم التي ننطلق منها نحوالنهضة المنشودة في كافة مناحي الحياة على أساس من الشراكة الواعية بين الدولة والمجتمع .

وقد اتخذت مصر قرارا استراتيجيا بالمضي قدما نحوتحقيق هذه الأهداف، من خلال الاستمرار في تطوير نظام التعليم والارتقاء به استنادا لرؤية ثاقبة وإرادة قوية، وعلى نحويمكننا من اللحاق بركب الثورة المعرفية.. فمستقبل أوطاننا وأجيالنا يعتمد الآن – وبشكل لا مجال لإنكاره أوالتهرب منه – على مدي قدرتنا على اقتحام آفاق العلم والمعرفة التي تزداد اتساعا على نحوغير مسبوق .

ويتطلب ذلك الاستمرار في إعادة هيكلة المنظومة التعليمية – بمستوياتها المختلفة – على أسس تضمن حق التعليم للجميع، وتحقق الارتقاء بجودة المنتج التعليمي، وتخريج العقول المتفتحة القادرة على التعامل مع روح وتحديات العصر.. عقول لا تعتمد على نمطية التفكير وإنما على الإبداع والابتكار والبحث والنقد، بما يهيئ أبنائنا للمساهمة في بناء مجتمعنا العصري الحديث، ويعزز من فرص مجتمعاتنا في أن تكون طرفا فاعلا في المنافسة العالمية .

وبالمثل، فقد انطلقنا نحوتثبيت الدعائم التي أرسيناها للاقتصاد الحديث، لنبدأ مرحلة جديدة ترتكز على إطلاق الطاقات الاقتصادية في مختلف القطاعات في ظل المنافسة الحرة، بهدف رفع معدلات النمو، ودفع عجلة الإنتاج، وجذب الاستثمارات الوطنية والدولية، وتحديث البنية الصناعية والخدمية بما يزيد من قدرتنا على المنافسة العالمية .

إلا أن اعتماد آليات الاقتصاد الحر لا يعني تخلي الدولة عن دورها وترك المجال لقوى السوق دون ضوابط، بل يقتضي في المقام الأول إيجاد إطار مؤسسي فعال قادر على مراقبة أداء السوق وضبط إيقاعه، وعلى ضمان حرية المنافسة والتعامل المرن مع المتغيرات الاقتصادية التي يفرضها الاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي. ومن هنا فقد عكفنا على وضع برنامج إصلاح اقتصادي شامل نعبر به من مرحلة الإصلاح الهيكلي، التي كانت ركيزة جهودنا خلال العقدين الماضيين، إلى مرحلة التطوير والتحديث المؤسسي والتشريعي بالتوازي مع سياساتنا في مجال تحرير الاقتصاد الوطني .

ويتواكب مع ذلك سعينا الحثيث للمضي قدما في سياسات تحرير التجارة، انطلاقا من قناعة راسخة بأن مستقبلنا الاقتصادي مرهون بالنفاذ إلى الأسواق في الخارج، ودفع عجلة التصدير انطلاقا من برنامج طموح لتحديث صناعاتنا الوطنية. وإذا كان عملنا في إصلاح هياكلنا الداخلية يعتمد على إيجاد الإطار المؤسسي اللازم لإدارة النشاط الاقتصادي، فإن توجهنا نحوالخارج لإيجاد منافذ تجارية جديدة يقوم أيضا على ترسيخ تعاملاتنا مع شركائنا التجاريين، في إطار منظومة اتفاقيات تضمن لنا المنافسة على أساس متكافئ وتعظيم ميزاتنا التنافسية، واثقين من قدرتنا على المنافسة العالمية .

وارتباطا بكل ما تقدم، فإن تنفيذ رؤيتنا الطموحة وآمالنا الواعدة نحوالإصلاح سيواجهها – دون شك – تحديات كبيرة لا يجب أن تثنينا عن المضي قدما في تنفيذ ما تعهدنا به، وإنما تحفزنا لبذل جهد أكثر بخطى ثابتة وعزم أكيد، يستندان إلى فكر جديد ورؤية ثاقبة، رؤية تؤكد على أن مواجهة هذه التحديات لا تقع على كاهل الدولة وحدها، وإنما على المجتمع بأسره .

فإذا كانت الدولة هي التي أخذت على عاتقها إرساء ركائز المجتمع الحديث، فإن مرحلة الإصلاح الجديدة تتطلب مشاركة فعالة من قبل المجتمع بكافة فئاته، بحيث يصبح المجتمع شريكا أساسيا في عملية التنمية. من هنا تنبع الحاجة الماسة لتعميق مسار الإصلاح السياسي بالتوازي مع سعينا للمضي قدما في عملية الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي .

فقد أثبتت تجربتنا أن الإنجازات التي حققناها على مدار العقود الماضية، والتحديات التي تجاوزناها بإرادة شعبنا، قد تمت من خلال إفساح المجال للحريات العامة في الرأي والتعبير والمشاركة السياسية. والآن ونحن مقبلون على تحديات أكثر تعقيدا تفرضها المرحلة القادمة التي عقدنا العزم على اقتحامها، فلا بد أن نعمق من مسيرتنا الديمقراطية وفق رؤية واضحة للإصلاح السياسي .

ويجب أن تستند هذه الرؤية إلى ركيزة هامة تتمثل في توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، سواء في الحياة السياسية أوالاجتماعية. ويبدأ ذلك بتطوير مؤسساتنا السياسية وعلى رأسها الأحزاب السياسية، والتي يجب أن تكون منبرا حقيقيا للتعبير عن تطلعات وآمال الشعب، تطرح الحلول لمشاكله وفق برامج حزبية قادرة على التعامل الجاد مع تحديات الواقع، وتعمل لصيانة مصالحه في إطار حياة نيابية نشطة قائمة على التعددية السياسية .

ومن نفس هذا المنطلق، عكفنا على تطوير الإطار التشريعي والمؤسسي الذي يحكم عمل المجتمع المدني ونشاط منظماته، الذي نرى أنه يمثل الركيزة الحقيقية التي يقوم عليها الإصلاح. ففي ظل التطورات التي تشهدها الحياة السياسية والاجتماعية على الصعيد الدولي، فعلىنا أن نعي أن قوة الأمم لم تعد تقاس استنادا إلى ما تملكه من قوة عسكرية أووفقا لأدائها الاقتصادي فقط، وإنما تقاس أيضا بمدي حيوية مجتمعها وما تزخر به طاقات شعبها المتمثلة في نقاباتها ومثقفيها، ومنظماتها التعاونية والأهلية، والتي تعمل جميعها على الارتقاء بحياة الشعوب في كافة المجالات، وتمثل الدعامة الصلبة التي تصون الوحدة الوطنية والاستقرار الاجتماعي .

ولا تكتمل مسيرتنا الديمقراطية بدون تعميق احترام حقوق الإنسان، ليس فقط من خلال إقامة إطار مؤسسي فعال يضطلع المجتمع المدني بالدور الرئيسي فيه بهدف صيانة حقوق المواطن الأساسية والحفاظ على كرامته، وإنما أيضا من خلال غرس قيم ومبادئ حقوق الإنسان بمفهومها الواسع في وجدان المجتمع بمختلف فئاته، حتى نخلق بيئة سياسية وثقافية داعمة لهذا التوجه، احتراما للدستور والقوانين التي حرصنا على أن تنص على أن حقوق المواطن تمثل أحد الدعائم الأساسية لمجتمعنا. ويرتبط ذلك ارتباطا وثيقا بما نوليه من أهمية لإزالة كافة أنواع التمييز ضد المرأة، وذلك تعميقا لمسيرة رائدة ترجع جذورها في مصر إلى أوائل القرن الماضي، تدعم المشاركة الكاملة للمرأة المصرية في كافة مناحي الحياة، إيمانا منا بدورها المحوري في تحقيق النهضة المجتمعية المنشودة .

الأخوة والأخوات

في هذه المرحلة الفاصلة في تاريخ أمتنا، كلي ثقة في أن جميع مجتمعاتنا العربية قادرة على الارتقاء لمستوى التحدي الذي أمامنا، والتسلح بكل ما لنا من إمكانات لتحقيق التنمية المطلوبة في مجتمعاتنا قاطبة. ولن يتحقق ذلك إلا بفكر جديد ورؤية ثاقبة متطورة .

رؤية تحقق لكل من دولنا العربية الاستفادة من التجارب الناجحة للدول العربية الأخرى في مجالات التحديث والتطوير المختلفة .

رؤية تمكننا من تحقيق أقصى استفادة من إمكاناتنا الذاتية في العالم العربي لتطوير وتحديث مجتمعاتنا، بما في ذلك دعم الاستثمارات، وتعزيز التجارة البينية، وتقوية علاقات الاعتماد المتبادل بين الحكومات والشعوب العربية .

رؤية تتيح لنا استخدام جامعة الدول العربية الاستخدام الأمثل لصياغة مواقف موحدة في القضايا الهامة والموضوعات الحاكمة، تؤكد أن الأمة العربية أمة ذات إرادة وقدرة على التعامل مع التحديات والمتغيرات مهما عظمت .

رؤية تمكننا من التعامل مع العالم الخارجي من منطلق تضافر الجهود والعمل المؤسسي، الهادف لتوحيد مصالحنا وتوجهاتنا إزاء التعامل مع التجمعات الأخرى على اختلاف مواقعها وتوجهاتها .

رؤية تطور من النظرة الدولية لديانتنا الإسلامية السمحاء، وتؤكد أن التطرف والتشدد هوالاستثناء، وأن الأصل هوالاعتدال والسماحة والعلاقات القائمة على الندية والتكافؤ .

رؤية متجددة في الطرح الإعلامي لقضايانا في العالم الخارجي، تبرز ما حققناه من إنجازات، وما بذلناه من جهود على مر السنين في التحديث والتطوير، وفي مكافحة الإرهاب ومقاومة التطرف .

وكلي تطلع لأن يخرج مؤتمركم هذا بفكر واضح مستنير، يسهم في تأكيد توجهنا نحوالتحديث والإصلاح، ويؤكد استعدادنا لتحويل هذا التوجه إلى عمل جاد فعال نحوتحقيق ما فيه الخير لشعوبنا ولمجتمعاتنا، في إطار من الالتزام بالقيم السامية والمبادئ الرفيعة التي اتخذناها أسسا لعملنا في هذه المجالات، ومن الانفتاح المتزايد على العالم الخارجي في إطار من الاحترام المتبادل القائم على تحقيق المصالح المشتركة .

والله الموفق والمستعان .

والسلام علىكم ورحمة الله وبركاته،

كلمة أ.د. إسماعيل سراج الدين في تقديم السيد الرئيس محمد حسني مبارك

 
 
 
منتدى الإصلاح العربي - حقوق الطبع محفوظة ٢٠٠٤ ©