صحة الأبدان بالغذاء: لمحة من التراث العربي

شارك

لا شك أن الغذاء هو مفتاح صحة الأبدان. وهذا ما جعل التراث العربي يزخر بكثير من المخطوطات التي تناولت علاج عديد من الأمراض عن طريق الأغذية، أو اتباع نظام غذائي معين للقضاء عليها بوصفها مرحلة سابقة قبل استخدام الوصفات الطبية من أدوية مركبة، أو قد يلجأ الطبيب إلى الاثنين معًا. هذا بالإضافة إلى تقسيم العلماء المسلمين للأغذية والأشربة إلى ما هو مفيد أو ضار للبدن وأثرها فيه، لما عرفوه من أهمية الغذاء لصحة البدن، بل لعلاج كثير من الأمراض.

فنرى نجيب الدين أبا حامد محمد السمرقندي (المتوفى 619ه/ 1222م) يذكر بمقدمة كتابه «الأغذية والأشربة للأصحاء» ما نصه: «وقد جمعت كلام جالينوس وأقاويل شارحي كلامه في الأغذية وجميع ما يتناول الإنسان في طبائعها نافعًا، وخواص كل واحدٍ منها، وما وجدت شيئًا منها إلا وأثبته في هذه المجلدة». ثم يقسم الأغذية والأشربة وما تفعله بالبدن بكتابه، فيبدأ بالحبوب ويتبعها باللحوم، ثم البيض، واللبن، والفاكهة، والبقول، ويختمها بالتوابل. ثم يقسم بعدها الأشربة بدايةً من الماء إلى سائرها؛ كما تناول أيضًا طرق تحضير هذه الأغذية والأشربة واستخدامها في العلاج لصحة الأبدان من خلال كتابه هذا.

وفي القرن السابع الهجري أيضًا نجد ابن النفيس وهو أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي (المتوفى 687هـ/ 1288م) – مكتشف الدورة الدموية الصغرى − يكتب كتابًا للغرض ذاته بعنوان «المختار من الأغذية»، يعرض فيه الأغذية التي يجب تناولها في حالة اعتلال الأبدان، وما يؤدي منها إلى زيادة أو نقصان في الوزن، هذا فضلًا عن إسهاماته الرائدة في هذا المجال.

أما الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الذي كان حيًّا (427ه/ 1037م) − وصاحب المقولة الشهيرة: «احذروا البطنة، فإن أكثر العلل إنما تتولد من فضول الطعام» − فقد تعرض لأنواع الأغذية بكتابه «دفع المضار الكلية عن الأبدان الإنسانية». وقد ألف هذا الكتاب في سبع مقالات، أفرد المقالة الرابعة للطعام وأنواعه وأضراره على صحة الإنسان. هذا، بالإضافة إلى ما استعرضه ابن سينا أيضًا من أنواع الغذاء وأضراره، والتداوي به من خلال كتاب آخر هو «القانون في الطب» الذي كان يعد منهجًا رئيسًا لجامعات الغرب، وهو ما اختصره لاحقًا بمنظومة سميت باسم «أرجوزة في الطب».

أما العشَّاب (الصيدلي) ابن البيطار أبو محمد ضياء الدين عبد الله المالقي (المتوفى 645ه/ 1248م)، أعظم علماء القرون الوسطى، والذي ولد بمالقة، وتعلم بإشبيلية، وعاش بمصر، وتوفي بدمشق وهو في التسع والأربعين من عمره إثْرَ تسممه باختبارٍ لنبتةٍ حاول صنع دواءٍ منها، فقد ألَّف كتاب «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» للغرض ذاته، وهو العلاج بالأدوية والغذاء. حتى إنه اكتشف نبتةً تسمى «الهندباء»، وهي ما تعرف بالاسم العلمي Cichorium لعلاج مرض السرطان. ولنتأمل قليلًا هذه الكلمات التي أوردها ابن البيطار بكتابه، والتي حدد فيها قواعد المنهج الحديث في البحث العلمي: «ما صحَّ عندي بالمشاهدة والنظر، وثبت لدي بالمخبر لا بالخبر أخذت به، وما كان مخالفًا في القول والكيفية والمشاهدة الحسية والماهية للصواب نبذته ولم أعمل به».

وإذا أوغلنا قليلًا في القدم إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين فسيتحفنا −«أحد أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق» كما وصفته المستشرقة زيغريد هونكه− الرازي أبو بكر محمد بن زكريا (المتوفى 313ه/ 925م) صاحب كتاب «الحاوي في الطب»، الذي ظل المرجع الطبي الأساسي في أوروبا لمدة 400 عام. يتحفُنا بكتابه «منافع الأغذية ودفع مضَارها» الذي ختمه بفصلٍ في كيفية اختيار الأغذية النافعة والملائمة لصحة الإنسان بعد أن فصَّل فيه كلَّ أصناف الغذاء والطعام ومنافعها ومضارها، بدايةً من الحنطة والخبز وانتهاءً بالتوابل مرورًا بالبقوليات واللحوم والأسماك، فضلًا عن المشروبات.

وهو أيضًا صاحب رسالة «علاج الأمراض بالأغذية والأدوية» التي على سبعة وثلاثين بابًا، يقدم فيها الرازي طرق العلاج بالنظام الغذائي أو بالأدوية لأمراض؛ مثل: الصداع، والصرع، والنسيان، وفساد العقل، وعلل العين. ويقصد بفساد العقل هنا الأمراض العقلية والنفسية بعد أن قدَّم لأمراض البدن من «أعالي البدن إلى أسافله» على حدِّ قوله، ويصف العلل واحدة بواحدة، ويقدم لكلٍّ منها العلاج المناظر لها.

هذا فضلًا عن مؤلفاتٍ كثيرة وجدت بتراثنا العربي تناول فيها مؤلفوها أُسس التغذية السليمة، وطرق الحمية والنُظم الغذائية، وكيفية التخلُّص من السمنة المفرطة والوزن الزائد أو معالجة النحافة، وهذا ما أطلق عليه حديثًا العلاج بالأنظمة الغذائية. ونذكر منها على سبيل المثال كتاب «الحِمْيَات» لأبي زكريا يحيى بن ماسويه (المتوفى 243ه/ 857م)، وكتاب «تدبير الأصحاء بالمطعم والشراب» لحنين بن إسحق (المتوفى 260ه/ 873م)، وكتاب «الأرجوزة في الأغذية والترياق» للسان الدين بن الخطيب (المتوفى 776ه/ 1374م).

وعلى صعيد آخر، عرفت الحضارة العربية طرق تحضير الطعام وتقديمه وإعداده وآدابه، ولكن يضيق المقام بها هنا. ونكتفي بالإشارة إلى كتاب «آداب الأكل» لابن عماد الأقفهسي (المتوفى 808ه/ 1405م)، وكتاب «تدبير الأطعمة» للكندي (المتوفى 265ه/ 873م). وفي الختام أدعوكم لتذكر المقولة المأثورة «المعدة بيت الداء، والحِمية رأس كلِّ دواء».


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد خريف 2015.

Cover designed by Freepik

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2025 | مكتبة الإسكندرية