في ديسمبر 2020، تمكن كوفيد-19 من الوصول إلى أبعد القارات، القارة القطبية الجنوبية (أنتركاتيكا). بدأت القصة عقب زيارة إحدى السفن وهي تحمل إمدادات إلى محطة الأبحاث التشيلية «برناردو أوهيغينز» وعلى متنها ثلاثة يحملون المظاهر السريرية لكوفيد-19. بعد ثلاثة أيام، ظهرت نتائج فحوصات 36 تشيليًّا إيجابية، فعزلتهم وراقبتهم السلطات الصحية في مناطق ماجلان، في محاولة منها لإدارة المرض وتقليل مخاطر الانتشار.
أبدى العلماء المهتمون بدراسة الحياة البرية قلقهم الشديد حيال الحياة البرية في القارة القطبية الجنوبية لأسباب مختلفة. وذلك لأن معظم محطات البحث في القارة القطبية الجنوبية تقع بالقرب من مجموعات الحياة البرية لتسهيل أعمال دراسة الحيوانات والتعامل معها وفحصها جيدًا. فعلى الرغم من أن كوفيد-19 مرض حيواني المنشأ مثل غيره من أنواع فيروس كورونا العديدة، فإن وجود أشخاص مصابين بالقرب من الحيوانات قد يتسبب في إصابة عكسية بالأمراض حيوانية المنشأ؛ ما يسمح للفيروس بالانتقال من البشر إلى حيوانات جديدة لم تفحص لإصابتها بالمرض بعد.
وإذا تأملنا في دراسات أجراها العلماء على حيوانات مختلفة في البلدان المصابة سابقًا، فسنلاحظ أن الحيوانات المعرضة للإصابة بالفيروس تختلف باختلاف أنواعها. فتضمنت هذه الدراسات إصابة سلالات المنك والكلاب والقوارض بكوفيد-19، ولكنها تفاعلت معه بشكل مختلف. على سبيل المثال، القطط الشابة ذات الفحوصات الإيجابية مرضت ثم تعافت بعد فترة؛ في حين كانت الكلاب أشد مقاومة للفيروس. ولا يوجد في القارة القطبية الجنوبية هذه الأنواع من الحيوانات، ولكن لديها مجموعة واسعة من الأنواع الأخرى. فهي تضم نصف الفقمات الموجودة في العالم، وملايين الطيور البحرية، و45٪ من البطاريق في العالم، و17٪ من الحيتان والدلافين في العالم.
ونتيجة لذلك، أجرى العلماء عمليات محاكاة حاسوبية وأنشأوا سجلات تساعدهم على التنبؤ بقابلية هذه الحيوانات على الإصابة بالفيروس. وأُجريت هذه التنبؤات وفق تركيب المستقبلات الجينية للفيروس عند الحيوانات. فوجدوا أن الحيتان والدلافين معرضة بشدة للعدوى، مقارنة بالفقمات والطيور التي تعيش هناك. من ناحية أخرى، لا يزال تأثير الفيروس في استقرار النظام البيئي غير معروف، إذ لم تُحدَّد إصابة أي من الحيوانات بالفيروس بعد، وما زال تأثيره الحقيقي غير معروف أيضًا.
ولمعرفة مزيد عن الحياة البرية في القارة القطبية الجنوبية، يتعين على العلماء الاقتراب جدًّا من هذه الحيوانات لفحصها جيدًا، واكتشاف حياتها وعاداتها ومدى قابليتها للإصابة بمختلف الأمراض. لسوء الحظ، هذا ما جعلهم أحد المصادر الرئيسية لنشر مرض كوفيد-19 بين هذه الحيوانات بصورة أكبر من السائحين الذين قد لا يقتربون منها.
ويعد السائحون السبب الثاني لانتشار مرض كوفيد-19 في القارة القطبية الجنوبية، إذ زارها نحو 80 ألف سائح في الفترة من أكتوبر 2019 إلى إبريل 2020، عندما بدأ كوفيد-19 ينتشر. فيمكن أن يكون السائحون مصدرًا لانتقال عدة أنواع من الميكروبات من خلال ملابسهم وأمتعتهم، إذا لم تُطهر.
هدفنا الرئيسي الآن هو منع انتشار كوفيد-19 في الحياة البرية بالقارة القطبية الجنوبية. والمبدأ التوجيهي الأول هو تقليل انتقال العدوى من إنسان إلى آخر باتخاذ بعض الإجراءات الاحترازية البسيطة؛ مثل ارتداء كمامات الوجه، والحفاظ على مسافة مترين على الأقل بين الأفراد، وتجنب الاتصال الوثيق بالمرضى، والحفاظ على الروابط الاجتماعية في الهواء الطلق مع تجنب التجمعات الكبيرة. فقد رأينا جميعًا كيف يمكن أن يحمل زائر آلاف الأنواع المختلفة من الميكروبات، وكيف يمكن أن يقلب كائن دقيق صغير غير مرئي العالم رأسًا على عقب. لذلك علينا أن نكون على يقين من عدم انتقال الفيروس إلى حيوانات جديدة؛ لتقليل فرص تطوره إلى نوع جديد أشد ضراوة.
والمبدأ التوجيهي الثاني هو منع انتقال العدوى من الإنسان إلى الحيوان، خاصةً ممن يقتربون جدًّا من الحيوانات، فهم بمنزلة مصدر رئيسي للعدوى. أولًا: يجب أن يكون العلماء وحدهم من يتعاملون مع هذه الحيوانات ويقتربون منها كثيرًا لفحصها؛ وعليهم ارتداء ملابس واقية واستخدام معدات وأدوات مطهرة جيدًا. وثانيًا: يجب اختبار صحة الزائرين والسائحين من جميع أنحاء العالم للكشف عن إصابتهم بكوفيد-19 ثم إبقاؤهم في الحجر الصحي لمدة 14 يومًا. ويجب أن يرتدوا ملابس نظيفة ومعقمة عند زيارة الحيوانات، وأن يبتعدوا عنها بمسافة لا تقل عن خمسة أمتار لتقليل احتمال انتشار العدوى.
تعتمد طبيعة الفيروس على انتشاره وتطوره؛ فإذا أتيحت له فرصة الانتشار والتكاثر داخل أجسام البشر فلن يمكن إيقافه. والآن، علينا الاستمرار في مهاجمة الفيروس ومنع انتشاره بيننا. وكحالنا، فإن الحيوانات مخلوقات رائعة ذات دور حيوي في النظام البيئي؛ لذا علينا إبقاؤها آمنة أيضًا.
المراجع
dw.com
nationalgeographic.com
theconversation.com
هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد شتاء/ ربيع 2021.
Cover designed by Freepik