عالِم التشريح والرسام

شارك

تضافر الفن مع العلم أمر لا مفر منه ولا يمكن تجاهله؛ فلا وجود لأحدهما دون الآخر. ومن أوضح أمثلة هذا الترابط الوطيد العلاقة بين الفنون البصرية وعلم التشريح؛ بما في ذلك رسم علماء التشريح للجسم ودراسة الرسامين لعلم التشريح. فللرسم التشريحي أهمية محورية في تعليم التشريح ودراسته، كما أن الفنانين أدركوا منذ عصر النهضة على الأقل أهمية المعرفة التشريحية بالنسبة لأعمالهم الفنية.

بطبيعة الحال كثيرًا ما كان التشريح الفعلي للجثث البشرية أساس علم التشريح؛ ولكن، على الرغم من ممارسة الإغريق القدامى التشريح، فلم يكن معترفًا به ولا مقبولًا في الأبحاث الطبية حتى القرن السادس عشر. فأثناء العصور الوسطى – وهي فترة زمنية كانت فيها الغالبية العظمى من الشعوب غير متعلمة وتؤمن بالخرافات – كان علم التشريح يقوم على مجموعة متفرقة من المعلومات المأخوذة عن المصادر الإغريقية مع كثير من التخمين. فلم تكن وظائف الجسم الداخلية تفسر عن طريق النظريات العلمية، بل حسب تأثير العوامل الخارقة للطبيعة والأرواح والشياطين!

قد يشتهر عصر النهضة بأعماله الفنية أكثر من أي شيء آخر؛ فقد شكلت أعمال كلٍّ من مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم اتجاه تاريخ الفن. مع ذلك، فإنه في أثناء تلك الفترة المحورية في تاريخ الفن، كانت علوم التشريح أحد مصادر الإلهام الأساسية للفنانين. فمع زيادة ثروة الأفراد ونمو الرخاء زاد الاهتمام بالتعليم، ودُعمت الفنون، وراجت الاكتشافات العلمية والاختراعات الجديدة. فتم تحدي النظريات التقليدية وشرع الأطباء في البحث عن فهم أفضل لكيفية عمل الجسم البشري؛ حيث زادت ممارسة التشريح في الجامعات الطبية في أنحاء أوروبا اعتبارًا من بدايات القرن الخامس عشر.

ولد أندرياس فيزاليوس في بروكسل في عام 1514، ودرس الطب في باريس حيث أصبح ماهرًا في التشريح. في عام 1537، انتقل إلى جامعة بادوا حيث أصبح أستاذًا للجراحة؛ وفي عام 1543، نشر كتابه «عن نسيج الجسم البشري» الذي غير الرؤية الطبية للهيكل البشري إلى الأبد. وتكمن أهمية هذا العمل في أنه تحدى الفكر السائد في ذلك الوقت.

فقد اعتمدت المعرفة الطبية قبل عصر النهضة على كتابات جالين، وهو طبيب إغريقي كتب أكثر من ستين عملًا حول الممارسات الطبية؛ فكانت كتاباته المادة المعتمدة في دراسة الطب أثناء العصر الروماني. وقد كانت أفكار جالين ومناهجه – مثل رصد الحالات الطبية وتسجيلها – مفيدة؛ إلا أنه ارتكب أخطاء كثيرة. فعلى الرغم من أنه قام بتشريح جثث بشرية، فإن كثيرًا من أفكاره حول التشريح البشري قامت على تشريح حيوانات مختلفة؛ الأمر الذي أدى إلى عديد من الأخطاء في كتاباته حول وظائف الجسم البشري. ولكن فيزاليوس أراد أن يرى بعينه تشريح الجسم البشري وكيف يعمل من الداخل.

في عام 1539، منحه أحد القضاة المحليين منفذًا لجثث المجرمين بعد إعدامهم؛ فشرع في ممارسة التشريح بصفة منتظمة، وفي كثير من الأحيان كان يقوم بذلك في حضور جمهور من العامة. على الرغم من أن فيزاليوس أيضًا كانت له بعض الأخطاء التدقيقية في أعماله التشريحية، فإنه قام بتصويب كثير من أخطاء جالين؛ ولكن الأهم من ذلك هو أنه وضع التشريح في مقدمة الدراسة الطبية. وتمثل أعمال فيزاليوس عصر النهضة أفضل تمثيل؛ حيث كان ينظر إلى الوراء نحو نسق التعليم الكلاسيكي، وكذلك إلى الأمام صوب المنهج العلمي الآخذ في التطور. فاستخدم التجربة والرصد والتأكيد المادي، متحديًا المعتقدات والأفكار الخاطئة التي بنيت على السلطة والتقاليد عوضًا عن الأدلة والبراهين، ومصححًا إياها.

وقد كان «عن نسيج الجسم البشري» موجهًا إلى الجمهور العريض؛ فاستخدمه طلبة الطب، ولكنه كان يعنى أيضًا بجمهور عمليات التشريح التي كان يقوم بها فيزاليوس. فكانت الصور في الكتاب بمثابة دليل بصري للجمهور؛ ولجذب أكبر عدد من الناس لم يكن الكتاب مفصلًا بشكل دقيق فحسب، بل كان مرسومًا بشكل رائع يفوق أي عمل تشريحي تم إصداره فيما قبل. ولم يكن ذلك ممكنًا دون التقدم الكبير الذي حدث في أثناء عصر النهضة.

أدت الجغرافيا دورًا في نجاح فيزاليوس؛ حيث تقع بادوا على مقربة من البندقية، التي كانت مركزًا تجاريًّا ساحليًّا ثريًّا في ذلك الوقت. فكان تجار البندقية الأثرياء يغدقون الصرف على التعليم والرفاهيات؛ فشكلوا سوقًا لأعمال فيزاليوس الباهرة. كذلك جذبت ثروة البندقية وجمالها الخلاب مجموعة متميزة من الفنانين الموهوبين؛ فاستطاع فيزاليوس أن يستعين بسهولة بأفضل الفنانين من المراسم المحلية – على رأسهم تيتيان – وذلك ليقوموا بعمل الرسوم الخاصة بكتابه. من العوامل الهامة أيضًا في نجاح ذلك العمل وانتشاره اختراع الطباعة، وهذا سمح بإنتاج أعداد كبيرة من كتاب فيزاليوس. وساعدت التطورات أيضًا في تقنيات الطباعة على احتواء الكتاب على الرسوم البديعة.

وقد كان علم التشريح مهمًّا بصفة خاصة في إيطاليا أثناء عصر النهضة؛ ليس للأهداف التعليمية فقط، ولكن أيضًا نظرًا للعدد الكبير من الفنانين البارزين الذين عملوا هناك في ذلك الوقت. فقد كان الأثرياء يوظفون هؤلاء الفنانين لتزيين منازلهم باللوحات والمنحوتات، وحرص الفنانون على أن تحاكي أعمالهم الواقع مثلما فعلت الأعمال الإغريقية والرومانية منذ آلاف السنين.

لذلك كانت العلاقة بين الفنانين والأطباء أثناء عصر النهضة علاقة تكافلية. فلم يكلف الأطباء الفنانين بعمل الرسوم الخاصة بأعمالهم فحسب، بل تابع الفنانون عمل الأطباء لمعرفة تفاصيل الطبقات المختلفة من العضلات والعظام المشكلة للجسم. ومن أمثال هؤلاء الفنانين مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي اللذان حرصا على محاكاة الشكل البشري في أعمالهما الفنية. بل قام بعض الفنانين بصياغة شراكات مع أطباء معينين؛ حيث سمح الأطباء للفنانين بالمشاركة في عملية التشريح في مقابل عمل الرسوم التشريحية.

وقام بعض أفاضل الفنانين أيضًا بعمل دراسات تشريحية خاصة بهم؛ حيث اكتشفوا اكتشافات جديدة طورت في هذا المجال. لقد اقتصرت دراسة معظم الفنانين على سطح الجسم؛ فقاموا بتفحص الأجسام الحية العارية. إلا أن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير؛ فأنتجوا أعمالًا فنية تظهر ما تحت الجلد من طبقات العضلات المتتالية والأوتار والعظام. وكان الهدف من ذلك الوصول إلى تصور أفضل يمكنهم من تمثيل الجسم البشري بواقعية في أعمالهم الفنية. فيقال إن دافنشي هو من قام بأول دراسة تشريحية سليمة لجنين بشري.

قد نميل لاعتبار ليوناردو دافنشي رسامًا في المقام الأول، على الرغم من أنه على الأرجح لم ينتج على مر حياته وحتى وفاته في عام 1519 أكثر من عشرين لوحة. ولكن في الواقع أن دافنشي قد قضى فترات طويلة من حياته المهنية التي امتدت إلى قرابة نصف القرن في مختلف المساعي، بدءًا من وضع الاستراتيجيات لأسلحة عبقرية قام من ثم بتصميمها، ووصولًا إلى الإشراف على نظام معقد من القنوات بأمر من لودوفيكو ماريا سفورتزا دوق ميلانو الحاكم. فقد ملأ ليوناردو على مر حياته آلاف الصفحات من المخطوطات بالرسوم والكتابات، تناول فيها بدقة معظم الموضوعات التي قد تخطر على البال.

وأحد المساعي العلمية التي أثارت فضول ليوناردو أكثر من غيرها هو التشريح البشري؛ فكرس ليوناردو رسومه التشريحية المبكرة بشكل رئيسي للهيكل العظمي والعضلات. وانطلاقًا من ملاحظة الجسم البشري الساكن شرع ليوناردو في دراسة دور الأجزاء المنفردة من الجسم في النشاط الحركي، وهو ما أدى في نهاية الأمر إلى اتجاهه نحو دراسة الأعضاء الداخلية للجسم. وقد دونت اكتشافاته من هذه الدراسات في رسومه التشريحية الشهيرة، وهي من أهم إنجازات عصر النهضة؛ حيث تستند تلك الرسوم إلى الترابط بين التمثيل الطبيعي والمجرد. فصور أجزاء الجسم في طبقات شفافة تمنح نظرة «تبصرية» داخل الأعضاء عن طريق استخدام مقاطع منظورية تجسد العضلات في شكل «خيوط»، مشيرًا إلى الأجزاء الخفية بخطوط منقطة ومبتكرًا نظامًا للتظليل.

وقد بدأ اهتمام ليوناردو دافنشي بالتشريح منذ كان يعمل لدى لودوفيكو دوق ميلانو؛ حيث شرع في تأليف كتابه «عن الشكل البشري». ولكن دراساته توقفت بعد أن أتم سلسلة من الرسوم الباهرة للجمجمة. وعلى الأرجح فقد يكون السبب وراء ذلك أنه لم يكن لديه سبيل للحصول على الجثث ليقوم بتشريحها. إلا أنه عاد بعد مرور عقدين من الزمان ليكتب ويرسم في دفتره الذي يعرف الآن باسم «المخطوط التشريحي ب»؛ حيث قام بعمل عدد من الرسوم بالحبر مسجلًا لما رصده أثناء تشريحه لجثة رجل مسن مات حديثًا في مستشفى فلورنسا في شتاء 1507–1508.

في الأعوام اللاحقة ركز ليوناردو على التشريح البشري بصورة أكثر انتظامًا عما قبل. ففي شتاء 1510–1511 قام ليوناردو بتجميع سلسلة من ثماني عشرة ورقة معظمها مزدوج الوجهين يعج بأكثر من 240 رسمة منفردة وأكثر من 13.000 كلمة من الملحوظات. تلك الأعمال المعروفة الآن باسم «المخطوط التشريحي أ» تحفل بلمحات تبصرية واضحة للوظائف التشريحية داخل الجسم البشري.

لقد قام ليوناردو دافنشي باكتشافات مهمة عدة؛ فأنتج أول تصور دقيق للعمود الفقري البشري، في حين تحتوي ملحوظاته حول تشريح مسن فلورنسا على أقدم وصف معروف للتليف الكبدي. على الرغم من ذلك، فإن أكثر مكتشفات ليوناردو العلمية عبقرية هي تلك التي قام بها عندما فر من الصراع السياسي في ميلانو ليلجأ إلى منزل عائلة مساعده فرانسيسكو ميلزي؛ حيث أصبح مهووسًا بفهم بنية القلب. فقد نشر جراح القلب فرانسيس ويلز الذي يعمل بمستشفى بابوورث في كامبريدج كتابًا باسم «قلب ليوناردو» يعرض فيه اطلاعه على دراسات ليوناردو لأول مرة عندما كان طالبًا قائلًا: «أتذكر كيف وجدتها أفضل بكثير من أي شيء موجود في كتب التشريح الحديثة. لقد كانت جميلة ودقيقة وشائقة، وقد كان بها حياة؛ وهو ما لا تجده في الرسوم التشريحية الحديثة».

أثناء تحقيقاته اكتشف ليوناردو عديدًا من الأمور المذهلة حول القلب، وهو ما يشرحه ويلز قائلًا: «لقد كان معتقدًا أن القلب يتكون من حجرتين؛ ولكن ليوناردو أكد أن للقلب أربع حجرات. واكتشف أن الأذينين أو حجرتي التعبئة ينقبضان معًا في حين تسترخي حجرتا الضخ أو البطينان، والعكس صحيح». كذلك رصد ليوناردو حركة القلب الدائرية؛ فيقول ويلز: «القلب يفرغ نفسه بحركة ملتفة؛ أي إنه يعتصر نفسه، كما نفعل عندما نعتصر منشفة على سبيل المثال. وعند فشل القلب فإنه يفقد ذلك الالتفاف». حسب ويلز، لم يفهم ليوناردو بشكل كامل وظيفة التفاف القلب، «ولكن كل شيء يبدأ في مكان ما» كما يقول ويلز؛ «لقد كانت بداية صحيحة على طريق فهم التفاف القلب، وهو من الموضوعات الأهم الآن في فهم فشل القلب».

ربما يكون الأمر الأكثر بهرًا هو ملحوظات ليوناردو حول صمام الأبهر. فقد بُهر ليوناردو بكيفية عمل صمام الأبهر؛ حيث يفتح ويغلق ليسمح للدم بالسريان في أحد الاتجاهات. هكذا شرع ليوناردو في بناء مجسم عن طريق صب قلب بقري باستخدام الشمع. وعندما جف الشمع وتصلب أعاد تجسيد الهيكل بالزجاج، ثم ضخ فيه خليطًا من البذور المعلقة في الماء. سمح له ذلك برصد الدوامات الصغيرة التي شكلتها البذور الحائمة في الجزء المتسع عند جذر الأبهر. نتيجة لذلك استطاع ليوناردو التنبؤ بشكل صحيح بأن تلك الدوامات تساعد على غلق صمام الأبهر. ولكن لأنه لم ينشر أيًّا من أبحاثه السابقة لزمانها، ظل ذلك الاكتشاف مجهولًا لقرون. يقول ويلز: «لم يكن ذلك مفهومًا حتى القرن العشرين، عندما قام مهندسون من جامعة أكسفورد بعرضه بشكل رائع الجمال في مجلة ناتشر Nature عام 1968. ولم يكن هناك إلا مصدر واحد يرجع إلى ليوناردو دافنشي».

يقول مارتن كلايتون، رئيس المطبوعات والرسوم بالمجموعة الملكية ionRoyal Collect والقيم على معرض إدنبرة: «لقد كان هناك عديد من علماء التشريح الباحثين في ذلك الوقت، كما كان هناك عديد من الرسامين المهتمين بعلم التشريح. ولكن ليوناردو دفع بالأمرين إلى ما هو أبعد مما وصل إليه أي شخص آخر. فقد كان المثال الأمثل والأعلى لعالم التشريح الذي يستطيع أيضًا أن يرسم، أو الرسام الذي يستطيع أيضًا أن يقوم بالتشريح بمهارة. وهذا الاتحاد بين هاتين المهارتين في شخص واحد هو ما جعل ليوناردو فريدًا».

في العقود التي تلت وفاة ليوناردو عام 1519، تبعثرت أوراق تلك الدفاتر الضخمة التي بلغ عددها قرابة 6500 ورقة. في عام 1690 تم جمع جميع دراساته التشريحية تقريبًا في المجموعة الملكية؛ حيث ظلت دون نشر أو اكتراث حتى نهاية القرن التاسع عشر. لهذا السبب لم يكن لاكتشافات ليوناردو التشريحية الهائلة أي تأثير في تاريخ العلم.

لقد ظل ليوناردو دافنشي أثناء حياته باحثًا يعتمد على الرصد البصري. ومن خلال ذلك الرصد وعبقريته الشخصية طور «نظرية معرفية» فريدة توالف فيها الفن والعلم. وتستمر قوته الفكرية التي تغلغلت في جميع ابتكاراته في إشعال الاهتمام البحثي حتى اليوم. فإنه سواء كان موضوع البحث حياته أو أفكاره أو إرثه الفني، لا يخبو تأثير ليوناردو دافنشي.

*المقال منشور في مجلة كوكب العلم المطبوعة، عدد صيف 2017.

لمراجع

joh.cam.ac.uk/art-anatomy
ncbi.nlm.nih.gov
telegraph.co.uk
bbc.com
britannica.com
smithsonianmag.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية