ديسلكسيا.. إحساس بالفشل وإحباط يتسلل إلى قلوب الأطفال دون رادع

شارك

«يجلس وسط أقرانه في الفصل الدراسي، ويشعر بقلق يزداد شيئًا فشيئًا كلما اقترب دوره في القراءة. ينطق المـُعلِّم باسمه لمواصلة قراءة ما قام به زميله بسلاسة. تبدأ عيناه بالتهام الكلمة عسى أن يتمكَّن من قراءتها بشكل صحيح، وألا يخلط حروفها كما حدث قبل ذلك. تنفرج شفتاه للنطق، لكنه لا يستطيع. يحاول مرة أخرى، فتخرج أصوات بعض الحروف، لا الكلمة كاملة. يبذل جهدًا مضاعفًا في المرة التالية، إلى أن يستطيع نطقها بشكل أقرب للصحيح، ولكن الكلمة التي تليها لا تسلم من التلعثُم؛ فيشعر بإحباط شديد.»

هذه ليست قصة طالب واحد، بل قصة عديدين ممن يعانون من عسر القراءة «ديسلكسيا»، وهو اضطراب تعليمي ذو أصل بيولوجي عصبي، يتميز بصعوبات في القدرة على التعرف على أصوات الكلام ومعالجتها، مما يؤدي إلى مشكلات في التهجئة السليمة وضعف القدرات الإملائية؛ فيترتَّب عليه صعوبات في القراءة بطلاقة والفهم، وانخفاض تحصيل المفردات.

أفادت أخر إحصائية أصدرتها مؤسسة ديسلكسيا الدولية أن واحد من كل 10 أشخاص، أي أكثر من 700 مليون شخص حول العالم، يعانون من ديسلكسيا. وتشير أحدث إحصائية للمركز المصري الكندي لنظم المعرفة ECCKS، إثر مسح عشوائي لثمانية وعشرين مدرسة بالقاهرة والإسكندرية، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم ومكتبة الإسكندرية، أن هناك نحو 2.000 طالب من أصل 5.247 لديهم هذا الاضطراب وفي حاجة ماسّة إلى برامج متخصصة.

وحسب ورقة بحثية صادرة من قسم طب الأطفال بمستشفيات جامعة بوسطن، هناك أعراض لديسلكسيا قد تظهر في سن ما قبل المدرسة تدل أن هناك عجز مبكر في مهارات القراءة والكتابة، إلا أن هناك بعض الصعوبات في التحقق بشكل دقيق، وقد يأخذ الأمر فترة لا بأس بها قبل السير في الاتجاه الصحيح. ويتحدث د. أحمد فهمي، مدرس بقسم علم النفس بكلية الآداب، جامعة الإسكندرية، وأخصائي العلاج المعرفي السلوكي، عن أسباب التشخيص الخاطئ قائلًا «هناك بعض الشروط التي يجب توافرها للتشخيص الصحيح، ومنها: ألا يكون هناك مشكلة نمائية كالتوحد؛ وألا يكون الشيء المتسبب في عسر القراءة سببًا عضويًا كضعف النظر أو السمع؛ أو مشكلة نفسية ناتجة عن ضغط نفسي في محيط الأسرة. وعندما تُشخص الحالة على أنها ديسلكسيا، تخضع لبرامج أكاديمية متخصصة وبرامج صوتية».

عندما نبدأ في الحديث عن أحد الأمراض أو الاضطرابات، كثيرًا ما تذهب أذهاننا لسؤال مهم: هل الأمر وراثي؟ وفق الورقة البحثية السابقة، عُسر القراءة قابل للتوريث بقوة؛ إذ يحدث فيما يصل إلى 68٪ من التوائم المتماثلة للأفراد المصابين به، وما يصل إلى 50٪ من الأفراد الذين لديهم قريب من الدرجة الأولى يعاني منه.

الجانب المظلم

تُلقي كثير من الأمراض والاضطرابات بظلالها على الحالة النفسية للفرد. وعندما يكون الأمر متعلقًا بالأطفال، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا وصعوبة؛ ذلك لأن الطفل في تلك المرحلة لا يكون قد امتلك بعد مهارة التعبير عما يشعر به، أو القدرة على التعرّف على ماهية مشاعره السلبية، فيقع فريسة لها.

وتشير الورقة البحثية إلى أنه بالإضافة إلى المشكلات الأكاديمية المرتبطة بديسلكسيا، فالأطفال الذين يستمرون دون علاج، أو مَن يتم تشخيصهم بعد فترة طويلة من الفشل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى آثار شديدة على صحتهم العقلية؛ فغالبًا ما يُنظر للطفل على أنه كسول أو يُوصف «بالغباء»، وقد يعاني الطفل حينها من انخفاض تقدير الذات الذي يمكن أن يتطور إلى القلق والاكتئاب.

كذلك تشير دراسة حول تأثير صعوبات التعلم، ومنها ديسلكسيا، على الصحة العقلية للطفل، لارتفاع مستويات التوتر والقلق للطلاب الذين يعانون من صعوبة التعلم بنسبة 70% مقارنة بأقرانهم الذين لا يعانون من نفس المشكلة. فيميل هؤلاء الأطفال لتبنّي مفاهيم ذاتية أقل عن قدراتهم ويشعرون بأنهم أقل قبولًا اجتماعيًّا؛ حيث يختبرون ذلك القلق الاجتماعي الذي يكون مدفوعًا بالخوف من التعليقات السلبية من أولياء الأمور والمـُعلِّمين وزملاء الدراسة على قراءتهم بصوت عالٍ في الفصل، ومن ثم يميلون إلى العُزلة.

تقدّم ملحوظ يسبقه وعي

أن يعاني الفرد من اضطراب مثل ديسلكسيا ليس نهاية المطاف؛ فالعثور على المجال الذي يستطيع أن يُبدع وينجح فيه يغيّر من الأمر كثيرًا. وتقول تسنيم عطية، مدرسة صعوبات التعلم في ECCKS، «أتفهم جيدًا ما يشعر به الأطفال من إحباط إثر محاولات عديدة يبذلونها لقراءة كلمة واحدة يستطيع الآخرون قراءتها بكل سهولة؛ فلقد عانيت مثل تلك المشاعر أثناء فترة الدراسة. ولم أكن أعلم أن لدي هذا الاضطراب إلا بعد أن أتممت دراستي الجامعية والدراسات العليا؛ فدائمًا ما كنت أشعر بثقل القراءة والاستذكار، لكنني لم أكن أعلم السبب».

وتضيف عطية قائلة «في البداية بدأت العمل مع أطفال لديهم صعوبات في التعلُّم ممن يعانون من التوحد ومتلازمة داون، ثم اتجهت إلى العمل مع حالات ديسلكسيا لأن كثيرين لا يعلمون طبيعة هذا الاضطراب، ومن ثم لا يعلمون الطريقة الأفضل للتعامل مع الأطفال. فعلى سبيل المثال، قد يتغيّر مستوى الطفل الدراسي بين يوم وآخر تبعًا لعدد من العوامل النفسية؛ فيأتي إلينا مثقلًا بالإحباط، يستمع لما أقوله دون اهتمام. لذلك ننصح الأهل أن يكون التشجيع والثناء مبنيًّا على مدى الجهد الذي يبذله الطفل، لا النتيجة».

ويقول فهمي بشأن أهمية تدارك الأهل لحالة الطفل من البداية: إنه يجب على الأم أن تُقدِّر احتياجات طفلها وتستشير المختص عندما تلاحظ أي مشكلة. كذلك عليها إبعاده عن أي ضغوط نفسية وعدم مقارنته بالآخرين لأن ذلك الأمر يؤذيه كثيرًا، وإذا ما شعرت أن طفلها يميل للانعزال، عليها تدارك الأمر حتى لا يؤدي ذلك إلى مشكلات أخرى.

تشير الورقة البحثية أن الفجوة بين وقت اكتشاف الاضطراب ومحاولة علاجه قد تمنع التدخُّل الفعّال للعلاج، مما قد يتسبب في آثار اجتماعية وأكاديمية عميقة للطفل. فنظرًا لأن القراءة هي الوسيلة المتوقعة للتعلم في النظام المدرسي، يصبح من الضروري تحديد الأطفال الذين يعانون من عسر القراءة في وقت مبكر والتدخّل دون تأخير. وتشير النتائج إلى أنه عندما يتلقى الأطفال المعرَّضون للخطر تدخُّل مكثّف في القراءة المبكرة، فإن 56٪ إلى 92٪ منهم يحققون نتائج أفضل، ولا تؤثر فقط على المستوى التعليمي للطفل؛ بل تضفي أيضًا بظلالها على حالته النفسية بشكل إيجابي.

«يجلس وسط أقرانه في ذلك اليوم، وقد استعاد ثقته بنفسه بشكل كبير، لوعي أسرته ودعم مُعلّميه. تلتهم عيناه الكلمات، وتبدأ شفتاه في النطق بشكل أفضل. يعلم جيدًّا ما يميّزه عن غيره ونقاط قوّته، وأنه قادر على الابتكار بطرق أخرى غير اعتيادية».

المرجع

نُشر هذا التقریر كجزء من مشاركة الكاتبة في ورشة الصحافة العلمیة ومن خلال مشروع «العلم حكایة»؛ أحد مشروعات معهد جوته الممولة من قبل «وزارة الخارجیة الألمانیة».


Cover image source

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية