بالبيئة والمناخ تكون الحياة

شارك

استيقظت البيئة ذات يوم كعادتها في وقت البكور، فما أن فتحت عينيها حتى أضاء الكون من حولها. فقامت تغسل وجهها وبعض الخصلات الخضر على رأسها بقطرات من ماء المطر، فكان الماء ينساب على جبينها في جداول وله خرير مبهج وجميل؛ يدغدغها فتضحك وتتمايل فرحًا، وتزهر كل النباتات في ربوعها وترتوي وتربو. ثم لم تلبث أن وجهت وجهها نحو أشعة الشمس الرقيقة الآتية من بين السحب، يصحبها بعض الهواء المنعش الذي ينساب متدفقًا برويَّة وهدوء؛ فيتداخل بين أنحائها وخصلات رأسها فتجف أعضاؤها المبتلة. وتتبخر قطرات الماء إلى السماء ومعها بعض القطرات من الأنهار والبحار والمحيطات التي تتزين بها؛ فترسم في جو سمائها بعض المساحات البيضاء من السحب، والتي سرعان ما تسوقها الرياح لبقعة أخرى عطشى فترويها.

تنظر البيئة من حولها فترى الحيوانات والطيور والحشرات، جميعها يتبادل النفع ويتنافس في السعي نحو الرزق، والبيئة فرحى بها؛ ففي دورة حياة كل منها نفع وازدهار. وعلى الرغم من بداءة الحياة التي عليها البيئة، إلا أنها كانت مستمتعة بها، يبهجها تعاقب الفصول المختلفة، ويملؤها بالحيوية والنشاط بقدر ما يمنحها كل فصل من نعم وخيرات.

وقفت البيئة فرحى بنفسها ومزهوة بما حباها به الله (عز وجل) من خيرات، وأخذت تردد: أنا البيئة، أنا كل شيء في الوجود، أوجدني الخالق سبحانه وتعالى في هذه الحياة بعضي يعيش في بعضي، وبعضي بيئة لبعضي. وفي غمرة فرحة البيئة بما حباها به الله (سبحانه وتعالى) من ملكات وقدرات وثروات سمعت صوتًا يخرج من أعماق الكون يخاطبها: أختاه أختاه.. هل أنستك الفرحة أخاك المناخ، إن لي نصيبًا فيما أنت فيه.

ابتسمت البيئة في خجل وصاحت في سرور: وكيف لي أن أنساك أخي الحبيب؛ فأنت المناخ الذي يحتويني بدفئه، وينعشني ببرده، ويشمل أطرافي بصقيعه، أنت أيها المناخ جزء مني.

المناخ: نعم أنا جزء منك وأنت بعض مني، يؤذيني ما يؤذيك ويبهجني ما يبهجك.

البيئة: هل تعلم ما يعجبني فيك أيها المناخ؟

المناخ: لا أدري، ليتك تخبريني.

البيئة: يعجبني أنك صبور، وكثيرًا ما تحتويني وتتحملني، ولا تتأثر سريعًا ببعض التغيرات التي قد تصيبني من أبعاضي.

تنهد المناخ تنهيدة طويلة، وقال: آه منك يا أختاه فلولا تغيراتك لما كنت؛ فأنفاس أوراقك الخضراء وجميع الحيوان على أرضك وبخر مياهك يمدني بالحياة الحقيقية، ويقوي من طبقات الحماية التي أحتويك بها.

قطع الحديث بينهما أصوات ضحكات أطفال يلعبون؛ فقالت البيئة: إنهم بنو الإنسان، سخرني الله (سبحانه وتعالى) لخدمتهم؛ يأكلون من ثمري، ويشربون من مائي، ويستخدمون ثرواتي في صنعة لبوس لهم تسترهم وتقيهم الحر والبرد وبأس أنفسهم، ويقيمون على أرضي حضارات لهم.

ابتسم المناخ قائلًا: أعرفهم يا أختاه، ويصلني من وراء أفعالهم كثير من الغبار والأدخنة والملوثات التي تتزايد يومًا بعد يوم. فردت البيئة: بقدر ما يسعدني خدمتهم، واستمتاعهم بأبعاضي، وتحقيقهم لأسمى الحضارات على أرضي، بقدر ما يؤذيني تجاهل بعضهم لحقي في أن أحيا كما خلقني الله (عز وجل) مبرأة من كل تلوث يؤذي أو وباء يعدي.

في هذه الأثناء سمعا ضوضاء عالية تكاد تغطي على صوتهما. قالت البيئة: يبدو أن انفجارًا وقع بين بني البشر في أحد مخترعاتهم، أو صاروخًا أطلقوه في بعض حروبهم، أو غير ذلك من أفعال البشر التي تؤذيني وتلوثني.. إن هناك لهيبًا أراه في السماء يتصاعد، وأدخنة سوداء وبيضاء تكاد تغطي الأفق. ثم تقول البيئة للمناخ (متسائلة): هل ترى ما أراه؟

أجاب المناخ (وقد تغيرت ملامح وجهه): أراه وأكاد أختنق، فهذا الدخان يحاول أن يتسرب من بين طبقات حمايتي لك، ويكاد أن يخترقها مع ما يحمله من غازات سامة، وملوثات كيماوية، وإشعاعات نووية.

البيئة: هل هذه الطبقات جزء منك أم جزء مني؟

المناخ: بل جزء منك، نتعاون في صنعه سويًّا؛ ليحيط بك كغلاف جوي يحميك.

البيئة: حماك الله أنت أيضًا، فلطالما علمت أن لي أخًا وسندًا.

ابتسم المناخ شاكرًا للبيئة دعاءها، ثم قال: كيف يفعلون ذلك بك؟ فأجابت البيئة: هم أبنائي سخرني الله (عز وجل) لخدمتهم؛ يأتونني حبوًا فأرعاهم، فإذا ما شبوا أتحمل طيش أحلامهم، وقسوة أهوائهم وتجاربهم.

المناخ: هل لا يعلمون أن التلوث الصادر منهم عائد إليهم مرة أخرى في صور متعددة! هل لا يعلمون أن الحياة على الأرض هبة ورسالة، ولا تضيق الأرض يومًا بأهلها وإنما ببعض أفعالهم بها ستضيق!

البيئة: لطالما أخبرتهم، وأريتهم نتائج بعض أفعالهم الطائشة التي أصابتهم ببعض الأمراض والأوبئة، وحذرتهم مما قد يحدث من تغيرات للمناخ، ولكنهم سرعان ما ينسون أو يتناسون في سبيل أهوائهم وتجاربهم.

المناخ: إذًا فأعلميهم أنه ما أجمل أن يكون العلم والحضارة والتطور في خدمة البيئة ولا يتصادم معها، إذ بصلاح البيئة يحيا الإنسان وتكتمل أدواته في هذه الدنيا، وبدونها فلا حياة.

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية