تخيل عالمًا يصبح فيه الذهاب إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة بمثابة مقامرة مع الموت، عالمًا تعود فيه الأمراض التي اعتقدنا أننا قهرناها إلى الظهور بقوة فتاكة، عالماً تتلاشى فيه فعالية المضادات الحيوية التي أنقذت ملايين الأرواح. فقد أحدث اكتشاف المضادات الحيوية القرن الماضي ثورةً في مجال الطب؛ حيث حولت العدوى البكتيرية من تهديد قاتل إلى مجرد وعكة صحية عابرة.
ومع الاستخدام المفرط وغير الرشيد لهذه الأدوية، بدأت البكتيريا في تطوير آليات مقاومة، ما جعل المضادات الحيوية تفقد فعاليتها تدريجيًّا[1]. ولكن في السنوات العشر الأخيرة، شهدت الأبحاث العلمية في مجال مقاومة المضادات الحيوية تقدمًا ملحوظًا، إذ طُورت تقنيات جديدة واكتُشفت مركبات واعدة لمكافحة البكتيريا المقاومة للأدوية، ومن أبرز هذه الإنجازات:
اكتشاف مضادات حيوية جديدة
كشفت الأبحاث عن مضادات حيوية جديدة تعتمد على آليات عمل مختلفة عن المضادات الحيوية التقليدية، مما يزيد من فاعليتها ضد البكتيريا المقاومة. ومن بين هذه المضادات الحيوية الجديدة، مضاد حيوي يسمى «تيكسوباكتين» (teixobactin)، والذي يعمل عن طريق استهداف جزيئات دهنية أساسية في جدار الخلية البكتيرية.
كما اكتُشفت مركبات جديدة مثل «مشتقات الببتيد» التي تستهدف أغشية الخلايا البكتيرية وتدمرها، مما يقلل من فرص تطوير المقاومة. وقد تناولت دراسة منشورة في دورية «ناتشر» Nature عام 2018 استخدام ببتيدات مضادة للميكروبات ضد سلالات بكتيريا مقاومة متعددة للأدوية.
تقنيات تشخيصية سريعة
طوَّر الباحثون تقنيات تشخيصية جديدة تسمح بتحديد البكتيريا المسببة للعدوى ونوع مقاومتها للمضادات الحيوية في غضون ساعات قليلة، لمساعدة الأطباء على وصف العلاج المناسب بسرعة وفعالية. فهناك تقنيات تسلسل الحمض النووي السريع وتقنيات التصوير الميكروبي، ومنها تقنية MALDI-TOF MS المستخدمة في تحديد نوع الميكروبات سريعًا.
العلاج بالعاثيات
العلاج بالعاثيات هو استخدام فيروسات تسمى العاثيات البكتيرية لقتل البكتيريا، وقد أثبتت هذه التقنية فعاليتها في علاج بعض أنواع العدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية. تقدم العاثيات بديلاً واعدًا للمضادات الحيوية، خاصةً في حالات العدوى التي لا تستجيب للعلاجات التقليدية.
تحديات وفرص مستقبلية
رغم تلك الإنجازات العلمية المهمة، فإن التحدي لا يزال كبيرًا ومعقدًا. فالبكتيريا بطبيعتها كائنات حية قادرة على التكيف والتطور السريع، مما يمَكنها من اكتساب آليات جديدة للمقاومة بشكل مستمر. وهذا السباق بين العلم والبكتيريا يتطلب جهودًا متواصلة واستثمارات ضخمة في البحث والتطوير.
تعدُّ تقنية تعديل الجينات «كريسبر–كاس9» CRISPR-Cas9 من الأدوات الواعدة التي يمكن استخدامها في مكافحة مقاومة المضادات الحيوية. فهي تتيح للعلماء تعديل الجينات البكتيرية المسؤولة عن خلق تلك المقاومة، مما يجعل البكتيريا أكثر استجابة للعلاج. ومع ذلك، لا تزال هذه التقنية في مراحلها الأولى، وتتطلب مزيدًا من البحث والتطوير للتأكد من سلامتها وفعاليتها.
نهايةً، لا نغفل عن أهمية الحدِّ من الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية، بوصفه السبب الرئيسي للمشكلة. وهو يعتمد على مدى التزام الدول والمؤسسات الصحية بتطبيق سياسات صارمة لتنظيم استخدام المضادات الحيوية في الطب البشري والحيواني، إذ يجب توعية الأطباء والمزارعين والمستهلكين بخطورة الأمر، وتطبيق إجراءات رقابية صارمة لمنع بيع المضادات الحيوية بدون وصفة طبية.
إن مكافحة مقاومة المضادات الحيوية ليست مسؤولية فردية، بل هي مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود من جميع الأطراف المعنية. فمن خلال التعاون والالتزام، يمكننا الحفاظ على فاعلية المضادات الحيوية وحماية صحة الإنسان والحيوان.
المراجع
mayoclinic.org
pmc.ncbi.nlm.nih.gov
nature.com
infectiologyjournal.com
academic.oup.com
who.int
medlineplus.gov
Cover image by Freepik.com