راشيل كارسون والربيع الصامت

شارك

تُعد عالمة الأحياء البحرية راشيل كارسون أحد أبرز المدافعين عن البيئة، ومن أفضل من كتبوا عن البيئة في القرن العشرين؛ فما زالت تُذكر إلى اليوم بأنها المرأة التي تحدت فكرة سيادة البشر على الطبيعة. يرجع الفضل في ذلك إلى كتابها المثير «الربيع الصامت»، الذي نُشر في عام 1962؛ حيث حذر من مخاطر الاستخدام السيئ لمبيدات الآفات مثل الدي.دي.تي DDT، وشكك في أغراض واتجاهات العلم الحديث، وأطلق حركة حماية البيئة المعاصرة.

درست راشيل في جامعة مريلاند، ثم عَمِلَت في هيئة الأسماك والحياة البرية الأمريكية في عام 1936. كان ذلك حين شرعت تؤلف كتابها الأول «تحت رياح البحر» الذي نُشر في عام 1941؛ حيث قامت فيه بشرح الحياة البحرية بطريقة سهلة، وواضحة، وراقية. وظلت تعمل في وظيفتها الحكومية طوال أربعينيات القرن الماضي، حتى نشرت في عام 1951 كتابها «البحر من حولنا»، الذي سرعان ما أصبح الأكثر مبيعًا؛ فحررها ماديًّا.

في خلال خمسينيات القرن العشرين، قامت راشيل بعمل أبحاث عن تأثير المبيدات الحشرية في السلسلة الغذائية، ومن ثم نشرت كتابها الشهير ذا التأثير الواسع «الربيع الصامت»، الذي أدان الاستخدام غير المقيد لهذه المبيدات. وعلى خلاف معظم المبيدات الأخرى التي يقتصر تأثيرها على قتل نوع أو نوعين من الحشرات، يستطيع مبيد الـدي.دي.تي إبادة مئات الأنواع المختلفة من الآفات في وقتٍ واحد. تم تطوير الـدي.دي.تي في عام 1939؛ إذ تميز في بادئ الأمر في أثناء الحرب العالمية الثانية بتطهير جزر جنوب المحيط الهادئ من الحشرات المسببة للملاريا للسماح للقوات الأمريكية بالانتشار،  كما استخدم في أوروبا كمسحوق فعَّال لإبادة القمل. وقد حصل مخترع هذا المبيد على جائزة نوبل.

عندما أصبح الـدي.دي.تي متاحًا للاستخدام المدني في عام 1945، لم يتشكك سوى قليلين في هذا المركب المعجزة الجديد. كان أحد هؤلاء كاتب علم الطبيعة «إدوين واي تيل»، الذي حذر من أن الاستخدام العشوائي للـدي.دي.تي من شأنه أن يسبب خللًا في الثروات الطبيعية. فأوضح أن 90٪ من الحشرات والآفات مفيدة، وأنه إذا تم القضاء عليها سيؤثر ذلك في النظام البيئي بشكل مباشر.

أثرت تحذيرات «إدوين واي تيل» في راشيل؛ فخاطبت عدة جرائد ومجلات لكتابة مقال مفصل عن مجموعة من الاختبارات على الـدي.دي.تي أجريت بالقرب من مكان إقامتها في ولاية مريلاند. ولكنها قوبلت بالرفض مرارًا وتكرارًا؛ الأمر الذي دفعها لتأليف «الربيع الصامت».

استغرقت كتابة «الربيع الصامت» أربع سنوات؛ حيث قامت بشرح كيفية اقتحام الـدي.دي.تي السلسلة الغذائية بدقة متناهية، وأوضحت كيفية تراكم هذا المبيد في الأنسجة الدهنية للحيوانات، بل في الإنسان نفسه؛ مما يؤدي إلى الإصابة بالسرطان وأضرار وراثية بالغة. كما أوضحت أنه إن تم رشه مرة واحدة فقط على أحد المحاصيل، تستمر فاعليته لقتل الآفات لأسابيع وشهور. كما أنه لا يقوم بالقضاء على الآفات المستهدفة فقط، بل يمتد مفعوله لقتل أنواع أخرى لا تُعد ولا تُحصى، ويستمر تأثيره السام في البيئة حتى بعد تخفيفه بفعل سقوط الأمطار.

ومن ثَمَّ، استنتجت كارسون أن الـدي.دي.تي ومبيدات الآفات الأخرى قد قامت بتلويث الثروة الغذائية عالميًّا وبلا رجعة. فمن أكثر فصول هذا الكتاب شهرة ورعبًا في نفس الوقت هو «أكذوبة الغد»؛ حيث يصور البيئة في مدينة أمريكية وهمية بعد أن «صمتت» فيها كل أنواع الحيوات من الأسماك والطيور والنباتات إلى الأطفال جرَّاء الآثار الخبيثة لهذا المبيد.

فما إن نشرت كارسون كتابها، حتى تعرضت لنقد وهجوم عنيف من قِبل القائمين على صناعة المواد الكيميائية، وهو أمر ليس بغريب؛ حيث حصل هؤلاء على أرباح طائلة مقابل بيع هذا المبيد. ومن أبرز الآراء الناقدة لها أنه إذا ما قام الإنسان بتطبيق ما جاء في هذا الكتاب بحذافيره، فإنه سوف يعود إلى عصور الظلام، وسترث الآفات المضرة والأمراض الأرض مرة أخرى. كما تطرقت بعض آراء النقاد لشخص كارسون؛ فقامت بالتشكيك في نزاهتها، ودوافعها الحقيقية، وصحتها العقلية في بعض الأحيان.

كان رد فعل القائمين على صناعة المواد الكيميائية متوقعًا من قبل كارسون، لذلك قامت بتجميع الأدلة مثلما يفعل المحامي عند كتابة مذكرة قانونية؛ فكتبت فيما لا يقل عن 55 صفحة ملاحظاتها وقائمة بأسماء الخبراء الذين قرأوا وأقروا بصحة ما ورد في كتابها. ومن جانب آخر، تصدى عديد من العلماء البارزين للدفاع عنها، كما أصدر الرئيس الأمريكي جون كينيدي أمرًا للجنته الاستشارية العلمية بالنظر في القضية التي أثارها هذا الكتاب؛ فجاء تقرير اللجنة ليثبت براءة كلاًّ من الربيع الصامت وصاحبته من الادعاءات المثارة.

وكنتيجة لذلك، تم إخضاع مبيد الـدي.دي.تي تحت الإشراف الحكومي، ومن ثم تم منعه في نهاية المطاف. تحول الجدل العام بسرعة من «هل فعلاً مبيدات الآفات خطرة؟» ليصبح «أي من المبيدات يُعد خطرًا؟». ومن المؤكد أن الإرث الأكثر أهمية الذي تركه «الربيع الصامت» هو خلق وعي بيئي عام لخطورة التدخل البشري في الطبيعة.

فلم يكن ليلقى الحفاظ على البيئة هذا الاهتمام الموسع من الرأي العام من قبل؛ إلا أن تحذيرات كارسون كانت مخيفة للغاية ولا يمكن تجاهلها. نتيجة لذلك، وللمرة الأولى، أصبحت فكرة ضرورة مراقبة صناعة المواد الكيميائية بهدف حماية البيئة مقبولة على نطاق واسع؛ فكان هذا هو مولد حركة حماية البيئة.

المراجع

www.nrdc.org

www.biography.com

www.theguardian.com


هذا المقال نُشر لأول مرة مطبوعًا في مجلة كوكب العلم، عدد ربيع 2016.

Cover image source: practicandocultura.files.wordpress.com

من نحن

«كوكب العلم» مجلة علمية ترفيهية باللغتين العربية والإنجليزية يصدرها مركز القبة السماوية العلمي بمكتبة الإسكندرية وتحررها وحدة الإصدارات بقطاع التواصل الثقافي ...
مواصلة القراءة

اتصل بنا

ص.ب. 138، الشاطبي 21526، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية
تليفون: 4839999 (203)+
داخلي: 1737–1781
البريد الإلكتروني: COPU.editors@bibalex.org

شاركنا

© 2024 | مكتبة الإسكندرية